يوم الجمعة الماضية وبعد ساعات من الهجوم الصاروخي على مطار البصرة بصاروخين من نوع "كاتيوشا" سقطا في منطقة فارغة قرب أبراج المراقبة المحيطة بالمطار من دون تسجيل إصابات، سارعت واشنطن إلى كيل الاتهامات لإيران ولقوات الحشد الشعبي العراقية متحدثةً عن أسباب أمنية وخطر يهدد بعثتها في المدينة الجنوبية وأمرت وزارة الخارجية الأمريكية بإغلاق القنصلية في البصرة ونقل موظفيها إلى موقع آخر، واتهم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في بيان أن من اسماها "الميليشيات" المدعومة من إيران مسؤولة عن الهجوم الصاروخي، واتهم البيت الأبيض إيران بالتقاعس عن منع هجمات المسلحين على القنصلية الأمريكية، علماً أن القنصلية الإيرانية في محافظة البصرة تعرّضت هي الأخرى إلى الهجوم والحرق قبل أسابيع.
وبالتزامن مع هذا استعرض أعضاء الكونغرس الأمريكي يوم الجمعة الفائت مشروع قانون يدعو إلى إدراج قوات الحشد الشعبي وبعض من قادته على قائمة الجماعات الإرهابية الأمريكية، ما يعد سيناريو جديد يحاك للعراق وللمنطقة، ويمكن الوقوف عند سلسلة من الأحداث المترابطة واستخلاص ما يلي:
أولاً: يعتبر الحشد الشعبي، المتشكّل أساساً من القوات العراقية التي لبّت نداء المرجعية للدفاع عن العراق، القوة الأساسية التي واجهت تنظيم داعش الإرهابي الذي طرق في حزيران عام 2015 أبواب العاصمة بغداد وهدد بشكل جدي باحتلالها، وكان لتلك القوات التي تحظى بشعبية كبيرة داخل العراق (كما أظهرت نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة حيث تمكّن عدد كبير من رموز الحشد الشعبي من الظفر بمقاعد داخل أروقة البرلمان) الكلمة العليا في دحر خطر داعش وتحرير أكثر من نصف مساحة العراق.
ثانياً: رفض قوات الحشد الشعبي، التي شاهدت في أكثر من معركة التنسيق الواضح بين القوات الأمريكية وتنظيم داعش، أن تضع يدها بيد واشنطن خلال الحرب ورفضت - ولا تزال - وجود أي قوات أمريكية ضمن الأراضي العراقي، والآن وبعد الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة فإنه يمكن للفرع السياسي لهذه القوات اتخاذ خطوات برلمانية قانونية في سبيل طرد القوات الأمريكية.
ثالثاً: لا يخفى على أحد الدور الكبير الذي قدمته إيران لقوات الحشد الشعبي على جميع الصعد، في سبيل في الحفاظ على وحدة أراضي العراق، وبالتالي فإن واشنطن ترى أن إيران استطاعت تشكيل جبهة مقاومة إقليمية كبيرة تمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، تسعى إلى النضال ضد الاحتلال والإرهاب، وهذه الجبهة التي تشمل أيضاً قوات الحشد الشعبي العراقية لا تتناقض بطبيعة الحال مع إرساء الأمن ومكافحة الإرهاب ولا تقلل من دور الحشد الوطني بل على العكس.
رابعاً: إن أمريكا تسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بعد أن تضع معركة الحرب على الإرهاب أوزارها بما يضمن مصالحها وفي إطار خططها الإقليمية ولكن وجود قوات الحشد الشعبي في العراق وتعاونه الوثيق مع طهران كمحور للمقاومة يعوق تنفيذ هذه الخطط بشكل كبير، لذلك تحاول واشنطن بكل السبل استثمار أي حدث لوضع هذه المجموعة في قائمة الجماعات الإرهابية الأمريكية "الفضفاضة" ومنع أي دور للحشد في مواصلة الدفاع المشروع عن وحدة وسلامة الأراضي العراقية.
خامساً: تسعى واشنطن إلى نشر بذور الخلاف والشقاق بين التيارات الشيعية في العراق وشيطنة بعضها على حساب الأخرى في مسعى لدقّ إسفين الفرقة بين العراقيين بشكل عام والشيعة بشكل خاص لعلّها بهذه الطريقة تستطيع تحقيق ما عجزت عنه باستخدام ورقة داعش، أي إيجاد عراق ضعيف تابع ممزق غير قادر على أن يحمي نفسه وغير قادر أيضاً على لعب أي دور إقليمي بحجم إمكانياته.
سادساً: بالإضافة إلى محاولة إيجاد خلاف داخلي بين العراقيين، تسعى واشنطن كذلك إلى التحريض على العلاقات الأخوية بين بغداد وطهران المبنية على أساس الاحترام المتبادل للجارين اللذين ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما.
سابعاً: تريد واشنطن أن يكون موضوع إدراج قوات الحشد الشعبي في العراق بوابتها لفتح باب مفاوضات جديد مع طهران، فمن خلال طرق هذا الباب تريد الإدارة الأمريكية إخضاع إيران ومحاصرتها أو كما يحلو لترامب تسميتها "قطع يد إيران في المنطقة"، وهو ما بدى واضحاً من خلال بيان وزير الخارجية الأمريكية الذي قال: إن واشنطن تعمل عن كثب مع شركائنا في الحكومة وقوات الأمن العراقية للتعامل مع هذه التهديدات، نحن ننتظر من جميع الأطراف الدولية المهتمة بالسلام والاستقرار في العراق والمنطقة أن تنضم إلينا في تقوية رسالتنا إلى إيران حول رفضنا لسلوكها.
في النهاية لا بد من التأكيد على أن استهداف الإدارة الأمريكية للحشد الشعبي في العراق بات يمثل أولوية بالنسبة للسياسة الأمريكية في بلاد الرافدين، خوفاً من أن يتكرس مسار العراق السيادي والاستقلالي بعد الانتخابات البرلمانية، وأسطوانة نعته بـ"الإرهاب" ستعاد أكثر من مرة وسيتم استخدام أوراق متعددة بعد انتهاء صلاحية ورقة الإرهاب في مسعى لضرب الحشد الشعبي، والحؤول دون لعبه أيّ دور سياسي مهم في المرحلة المقبلة.
الوقت
110