ومنها كتب تاريخ المدن، وكتب أحكام البُنيان، وكتب الآداب السلطانية والسياسة الشرعية، ومن هذه الكتب الأخيرة كتاب: «تسهيل النظر وتعجيل الظفر» للماوردي (حققه رضوان السيد ونشره سنة 2012م)، وكتاب «سلوك المالك في تدبير الممالك» لابن أبي الربيع (حققه حامد ربيع ونشره سنة 1980م). كما لم تتطابق أحوال تلك المدينة أيضاً مع النماذج العمرانية الأولى التي تجلت في بعض المدن الإسلامية المبكرة مثل: «بغداد»، و«الكوفة»، و«البصرة»، و«فاس»، و«القاهرة» وغيرها على نحو ما جاء وصفها في المصادر التاريخية. والذي حدث هو أن تلك المدن ازدهرت حيناً، وتدهورت حيناً آخر، وتناوبتها عوامل الاستقرار والاضطراب، حتى أن بعض المدن سقطت من يد الزمن وأمست أثراً بعد عين.
وإذا كان تصميمُ المدن الجديدة في القرون الأولى للعالم الإسلامي قد تم وفقَ مقاصد واضحة، ووظائف محددة، إلا أن ازدهار هذه المدن ونجاحها في أداء وظائفها وتحقيق مقاصدها، قد ارتبطا بدرجة الالتزام بتطبيق النظام الإسلامي الشرعي في تكوين النسيج المديني من جهة، وارتبطَا تاريخياً مع قوة الدولة وتزامنا معها من جهةٍ أخرى. وعليه يمكن القول: إن الابتعادَ عن التوجيهات العمرانية المستمدة من التعاليم الإسلامية ومعاييرها، إلى جانب ضعف الدولة وتفككها، هذا وذاك، قد ساهما في تشويه مقاصد الفنون العمرانية الموروثة، وأثَّرا سلبياً على أدائها الوظيفي في بناء «الحياة الطيبة»، حتى قبلَ وفود تأثيرات الحداثة الأوروبية في القرنين الأخيرين واقتحامِها غالبية مجتمعات الأمة الإسلامية وتشويهها مدنها التاريخية.
وطبقاً للقانون العام الذي يحكمُ نشأة المدن وتطورها في مختلف التجارب العمرانية الحضارية، فإن المراحَل الأولى من عمر المدينة غالباً ما تتسم بدرجة عالية من الانضباط في التصميم والبناء، وفي الجمالياتِ والبهاء، وفي الانتظام الوظيفي وفق الخطط الأساسية الموضوعة للتكوين المديني. ثم قد يحدثُ بعد مرور أحقاب زمنية طويلة نسبياً أن يختلَّ ذلك الانضباط، ويتحول الانتظام إلى العشوائية. وهذا ما حدث بالفعل لغالبية المدن الإسلامية من القديم إلى الوسيط إلى الحديث والمعاصر. ومن الصواب القول - مع رضوان السيد - أن المدينةَ الإسلامية «التاريخية» قد زال نظامُها وترتيبُها في العصر الحديث، وآل أمرها في أفضل الحالات إلى ذمةِ المدن الأثرية والمزارات السياحية.
مع الحداثةِ خلالَ القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين)، شهدت المدنُ الإسلامية التقليدية تحولاتٍ جذريةً في مكوناتها العمرانية الكبرى، بخاصة في منظومة: الجامع والسوق والفندق أو النُّزل، ودار الوالي، أو مقر السلطة وأجهزتها الإداريةِ والأمنيةِ. وبات هذا التكوينُ أقرب إلى التناثر واللانظام في علاقاته النفعية والجمالية والمقاصدية. وفي رأي البعض، أن تأسيسَ «شركة النقل البحري العام» (شركت - حايري) في اسطنبول في خمسينات القرن التاسع عشر كان «إيذاناً بوصول الحداثة إلى بطن المدينة الإسلامية». وقد ساهمت هذه الحداثة في بعثرة المنظومات العمرانية التراثية وإفقادها الكثير من وظائفها، مع تشويه الصورة العامة التي كانت تميزها عن غيرها من الأنماط العمرانية التي عرفتها الحضارات الأخرى.
وقد لاحظتُ أنَّ إشكاليةَ «المسألة العمرانية المدينية» بمرجعيتها المقاصدية غائبةٌ تماماً عن إدراكات الحركات الإصلاحية التي تتبنى الرؤية الإسلامية للحياة ومرجعيتها العليا. ومن الأدلة على هذا الغياب، أن غالبية كتب رواد هذه الإصلاحة، بما فيها كُتُب «الفقه السياسي الحضاري» في القرنينِ الهجريين الأخيرين، تخلو من مناقشة هذه المسألة العمرانية خلواً شبه تام، ولم تتضمن - إلى الآن - تصوراً جديداً للمدينة يلبي حاجات الواقع المعاصر وفق المرجعية الإسلامية ومقاصدِها، على رغم أن أحوال «المدن الإسلامية» التاريخية، وأحوال «المدن الجديدة» التي نشأت في البلدان الإسلامية، تعجُّ بكثيرٍ من التشوهات والقبائح والمتناقضات العمرانية التي يتعذر معها بلوغ مقصد «الحياة الطيبة» الذي يعتبر أعلى مراحل المقاصد الإسلامية العمرانية، حيث تتجاور «مدن الكومبوندز» الباذخة في بنائها وتحصيناتها، مع مدن «الصفيح والقصدير،، و«مدن المقابر»، و«مدن العشوائيات» المزريةِ في بنائها وخدماتها وشروط الحياة الآدمية فيها. وعلى رغم ظهور هذا التناقض بجلاء، واستفحاله وتفاقم مشكلاته، إلا أنه لم ينطرح في أدبيات «الفقه السياسي الحضاري» المعاصر سؤالُ «المسألة العمرانية»، وما يتعين أن تكون عليه «المدينة» وفق نسق التفكير المقاصدي الإسلامي الأصيل.
إن أهمَّ ما يكشفُ عنه التاريخ الحديث والمعاصر للفنون في مجتمعاتِنا الإسلامية عموماً، وفي شأنِ فنون التخطيط العمراني المديني وجمالياتِه خصوصاً، هو أنها أصبحت واهيةَ الصلةِ بنسق التفكير في «الحياة الطيبة»، وأضحت في خدمة عمليات إعادة تشكيل الوجدان الفردي والجماعي بعيداً من المرجعية الإسلامية ومقاصدها العامة، بل وعلى نحو معادٍ لهذه المرجعية ومفارق لها تمام المفارقة في بعض الأحيان.
إن إتقان الفنون العمرانية في تأسيس المدن كان تعبيراً عن تفكيرٍ مقاصدي من الطراز الأول، حيث رأى أولئك القدماء من الخبراء والعلماء وأولي الأمر، أنه لا غنى عن تلك الفنون وإتقانِ تصميمها لضمان شرط أساسي من شروط «الحياة الطيبة»، ومتطلب من متطلبات الصحة النفسية الجيدة، وركن من أركان الاتزان العقلي لسكان المدينة، فالمشاهدُ المبهجة، والألوان المتناسقة، والمساحات الخضراء، والحدائق المفرحة، والنظافة العامة، كلها تؤثرُ إيجابياً على المزاج النفسي العام، بخلاف مشاهد القبح والفوضى والقذارة والعشوائية التي تضرُّ بالصحة النفسية وتشجعُ على العنف، ومن ثم تساهمُ في إلحاق الأذى بالنفس، والمال، والنسل، والعقل، والدين في آن واحد.
لقد ارتبطت المدن الجديدة حديثة النشأة برؤى مختلفة تماماً لا صلةَ لها بتلك الرؤى الموروثة للعيشِ في المدن والأمصار الإسلامية، على النحو الذي كان حاضراً في أذهان كتاب الحكمة السياسية والآداب السلطانية والسياسة الشرعية. ولا تزال الفكرة المهيمنةُ في المدن الجديدة هي: «الأزمة» السكانية الضاغطة على أماكن التجمعِ القديمة، التي أصابها ما أصابها من تناقضات عمرانية، وتدهورٍ وتآكل في بناها الأساسية، ومساحاتها العامة على السواء في عددٍ كبير من مدن العالم الإسلامي. إن فكرة الأزمة كفكرة كامنةٍ في فلسفة تخطيط وتعمير المدن الجديدة في غالبية بلدان العالمِ الإسلامي، هي فكرةٌ للهروب من تراكم السلبيات التي أفقدت المجالَ العامَّ وجوده ووظائفه الجمالية والمقاصدية في الأذهان، قبل أن تفقده في المكان. ولهذا تجد أن ما تعاني منها المدينةُ القديمة الموروثة، ينتقلُ بسهولةٍ ويسر إلى «المدن الجديدة» المستحدثةِ.
من المنطقي أن يؤدي اختلافُ «فلسفة العمران» المديني من حضارةٍ إلى أخرى، إلى اختلاف الذوقِ الجمالي وصور التعبير عنه، وعن مقاصده ووظائفه تبعاً لذلك. وهذا الافتراض يؤكدُه كثيرٌ من الدراسات المقارنة للتكوينات المدينية عبر التجارب الحــضارية المختلفة، (دعْكَ من محاولات طـــمس هوية المدينة «الإسلامية» بدعوى أنها لم تضف شيئاً إلى التنظيمِ المديني، الذي عرفه الإغريق واليــونانيون والرومانيون). لكن الأحوالَ الراهــنة في كثيرٍ من «المدن» في بلدان الأمة الإســـلامية تشير إلى أنها قد فقدت الكثيرَ من مقوماتِ هويتها المســـتقلة، وأنها آلت إلى وضعٍ يمكنُ وصفها فيه بأنها مدن ذات هوية مـشوهة، وذات اجتماعٍ سياسي مختلط، وجماليات هي إلى القبائح أقرب منها إلى المحاسن، حتى يكاد يصدق عليها وصف المقريزي لبغداد بعد أن دهمها المغول، وهو أنها يصعب أن نسميها «مدينة».
31