الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجائع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسامكم ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوفَ حولَ مشاهِدكم ، ونُعزّي فيها أرواحَكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتِكم القروح ، وأورثت أكبادَهم الجروح ، وزرعت في صدورِهم الغُصص ، فنحن نُشهِدُ الله أنّا قد شاركنا أولياءَكم وأنصارَكم المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليّي يُبلِّغكم منّي السلام.
فَيَا وَقْعَةً لَمْ يُوْقِعِ الدَّهْرُ مِثْلَها وَفَادِحَةً تُنْسَى لديها فَوَادِحُهْ
مَتَى ذُكِرَتْ أَذْكَتْ حَشَى كُلِّ مؤمن بِزَنْدِ جَوَىً أَوْرَاهُ لِلْحَشْرِ قَادِحُهْ
روي عن ثابت بن أبي صفية ، قال : نظر علي بن الحسين سيِّد العابدين ـ صلَّى الله عليه ـ إلى عبيدالله بن عباس بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) فاستعبر ، ثمَّ قال : ما من يوم أشدّ على رسول الله(صلى الله عليه وآله) من يوم أحد ، قُتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة ، قُتل فيه ابن عمِّه جعفر بن أبي طالب ، ثمَّ قال(عليه السلام) : ولا يوم كيوم الحسين صلى الله عليه ، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمّة ، كلٌّ يتقرَّب إلى الله عزَّ وجلَّ بدمه ، وهو بالله يذكِّرهم فلا يتعظون ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.
وعن عبدالله بن الفضل قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : يا ابن رسول الله! كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغمّ وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ واليوم الذي ماتت فيه فاطمة(عليها السلام)؟ واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين(عليه السلام)؟ واليوم الذي قتل فيه الحسن(عليه السلام) بالسمّ؟ فقال : إن يوم قتل الحسين(عليه السلام) أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام ، وذلك أن أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله كانوا خمسة ، فلما مضى عنهم النبيُّ بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) ، فكان فيهم للناس عزاء وسلوة ، فلمَّا مضت فاطمة(عليها السلام) كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين(عليهم السلام) للناس عزاء وسلوة ، فلمَّا مضى عنهم أمير المؤمنين كان للناس في الحسن والحسين(عليهما السلام) عزاء وسلوة ، فلمَّا مضى الحسن(عليه السلام) كان للناس في الحسين عزاء وسلوة . فلمَّا قتل الحسين صلى الله عليه لم يكن بقي من أصحاب الكساء أحد الناس فيه بعده عزاء وسلوة ، فكان ذهابه كذهاب جميعهم ، كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم ، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة .
قال عبدالله بن الفضل الهاشمي : فقلت له : يا ابن رسول الله! فكيف سمَّت العامة يوم عاشوراء يوم بركة؟ فبكى(عليه السلام) ثمَّ قال : لما قُتل الحسين(عليه السلام) تقرَّب الناس بالشام إلى يزيد ، فوضعوا له الأخبار ، وأخذوا عليها الجوائز من الأموال ، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم ، وأنّه يوم بركة ، ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن ، إلى الفرح والسرور والتبرُّك والاستعداد فيه ، حكم الله بيننا وبينهم.
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
ولكنْ شَجَتْني وَقْعَةُ الطفِّ فَانْبَرَى لَهَا بالحَشَى وَجْدٌ يَضِيْقُ به الصَّدْرُ
فَيَا وَقْعَةَ الطَّفِّ التي بمُصابِها تَزَلْزَلَ رُكْنُ الدِّيْنِ وَاعْتَصَمَ الكُفْرُ
لَسَوَّدْتِ وَجْهَ الدَّهْرِ خِزْياً وَإِنَّما أَتَيْتِ بمالَمْ يَأْتِ في مِثْلِهِ الدَّهْرُ
مَلأْتِ بها صَدْرَ الْفَضَاءِ مرنَّةً فَأَصْبَحَتِ الدُّنْيا وفي سَمْعِها وَقْرُ
مُصَابٌ أَصَابَ المصطفى منه فَادِحٌ بَكَتْ حَزَناً مِنْ رُزْئِهِ فَاطِمُ الطُّهْرُ
وعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ما من شهيد إلاَّ وهو يحبُّ لو أن الحسين بن علي(عليهما السلام) حيٌّ حتى يدخلون الجنة معه.
روى البلاذري قال : لمّا قتل الحسين(عليه السلام) كتب عبدالله بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أمَّا بعد ، فقد عظمت الرزيَّة ، وجلَّت المصيبة ، وحدث في الإسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين ، فكتب إليه يزيد : أمَّا بعد يا أحمق ، فإننا جئنا إلى بيوت منجَّدة ، وفرش ممهَّدة ، ووسائد منضَّدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقَّنا قاتلنا ، وإن كان الحقّ لغيرنا فأبوك أولُ من سنَّ هذا ، وابتزَّ واستأثر بالحق على أهله(1).
وهو(عليه السلام) قتيل العبرة ، فهو عبرة كلّ مؤمن ومؤمنة ، روي عن ابن خارجة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال الحسين بن علي : أنا قتيل العبرة ، قتلت مكروباً ، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب قط إلاَّ ردَّه الله أو أقلبه إلى أهله مسروراً(2).
وعن أبي يحيى الحذَّاء ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : نظر أمير المؤمنين إلى الحسين(عليهما السلام) فقال : يا عبرة كل مؤمن ، فقال : أنا يا أبتاه؟ فقال : نعم يا بنيَّ(3) ، وعن أبي بصير ، عن الصادق ، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال أبو عبدالله الحسين بن علي(عليهما السلام) : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلاَّ استعبر(4).
وعن الحسن بن أبي فاختة قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إني أذكر الحسين ابن علي(عليهما السلام) فأيَّ شيء أقول إذا ذكرته؟ فقال : قل : صلَّى الله عليك يا أبا عبدالله ، تكرِّرها ثلاثاً .
وعن داود الرِّقّي قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) إذا استسقى الماء ، فلمَّا شربه رأيته قد استعبر ، واغرورقت عيناه بدموعه ، ثمَّ قال لي : يا داود! لعن الله قاتل الحسين(عليه السلام) ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله إلاَّ كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطَّ عنه مائة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة ، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد(5).
عظَّم الله أجوركم أيُّها المؤمنون ، وأحسن الله لكم العزاء في مصيبة إمامنا الحسين(عليه السلام) التي تتفطَّر لها القلوب ، وتتصدع لها النفوس ، قال ابن الدمشقي في فظاعة مقتل الحسين(عليه السلام) ومصيبته:
وبالجملة والتفصيل فما وقع في الإسلام قضيةٌ أفظعَ منها ، وهي ما ينبو الأسماع عنها ، وتتفطَّرُ القلوبُ عند ذكرِها حُزناً وأسىً وتأسُّفاً ، وتنهلُّ لها المدامع ، كالسحب الهوامع ، هذا والعهد بالنبيِّ قريب ، وروض الإيمان خصيب ، وغصن دوحته غضّ جديد ، وظلُّه وافرٌ مديد ، ولكنَّ الله يفعل ما يريد . وما أظن أن من استحلَّ ذلك ، وسلك مع أهل النبيِّ (صلى الله عليه وآله) هذه المسالك ، شمَّ ريحة الإسلام ، ولا آمن بمحمَّد عليه وآله الصلاة والسلام ، ولا خالطَ الإيمانُ بشاشةَ قلبه ، ولا آمن طرفَة عين بربِّه ، والقيامة تجمعهم ، وإلى ربِّهم مرجعهُم .
ستعلمُ ليلى أيَّ دَيْن تَدَايَنَتْ وأيَّ غريم للقاضي غَرِيمُها
ولقد قرأ قارىءٌ بين يدي الشيخ العالم العلاّمة أبي الوفاء علي بن عقيل رحمه الله قوله تعالى : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.
فبكى وقال : سبحان الله! غاية ما كان طَمَعُه فيما قال : {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الاَْنْعَامِ}جاوزوا والله الحدَّ الذي طمع فيه!!
ضَحَّوا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ به يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحاً وَقُرْآنا
إي والله ، عمدوا إلى علي بن أبي طالب بين صفّيه فقتلوه ، ثمَّ قتلوا ابنه الحسين ابن فاطمة الزهراء ، وأهل بيته الطيِّبين الطاهرين بعد أن منعوهم الماء! هذا والعهد بنبيِّهم قريب ، وهم القرن الذي رأوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ورأوه(صلى الله عليه وآله) يقبِّل فمه ، ويرشف ثناياه ، فنكتوا على فمه وثناياه بالقضيب!! تذكَّروا والله أحقاد يوم بدر وما كان فيه! .
وأين هذا من مطمع الشيطان ، وغاية أمله بتبكيت آذان الأنعام؟ هذا مع قرب العهد ، وسماع كلام ربّ الأرباب : {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}ستروا والله عقائدهم في عصره مخافة السيف ، فلمَّا صار الأمر إليهم كشفوا عن قناع البغي والحيف {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
وقال القلقشندي في صبح الأعشى : ويعدُّون ـ أي الشيعة ـ من العظائم فعل شمر بن ذي الجوشن ، وهو الذي احتزَّ رأس الحسين(عليه السلام) ، وأنّ من ساعده على ذلك مرتكب أعظمَ محظورات بأشدّ بلية ، وحقيقٌ ذلك أن يستعظموه ، فأيُّ جريمة أعظم من قتل سبط رسول الله(صلى الله عليه وآله)(6).
قال دعبل بن علي الخزاعي ـ يحثُ صاحب المصيبة على التسلّي بمصائب النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) وما جرى عليهم :
تَعَزَّ فَكَمْ لك من سلوة تُفرِّجُ عنك غليلَ الحَزَنْ
بموتِ النبيِّ وَقَتْلِ الوصيِّ وَقَتْلِ الحسينِ وَسَمِّ الحَسَنْ
وزاد بعضهم :
وَجَرِّ الوصيِّ وَغَصْبِ التُّرَاثِ وَأَخْذِ الحُقُوقِ وَكَشْفِ الإِحَنْ
وَهَدْمِ المَنَارِ وَبَيْتِ الإِلَهِ وَحَرْقِ الكِتَابِ وَتَرْكِ السُّنَنْ
وقال دعبل الخزاعي أيضاً :
مِحَنُ الزمانِ سَحَائبٌ مُتَرَاكِمَه هي بالفَوَادِحِ فَالفَوَاجِعِ سَاهِمَه
فإذا الهُمُومُ تَراكَبَتْكَ فَسَلِّها بمُصَابِ أولادِ البتولةِ فَاطِمَه
وقال آخر :
كُلُّ الرزايا دُوْنَ وَقْعَةِ كربلا تُنْسَى وَإِنْ عَظُمَت تهونُ عِظَامُها
ويقول الشيخ يوسف أبو ذيب الخطي عليه الرحمة :
وَإِذَا تَعَاوَرَكَ الزَّمَانُ وَهَاجَ نَحْوَكَ بالنَّوَائِبْ
فَاذْكُرْ مُصِيبَتَهُمْ بِعَرْصَةِ كَرْبَلا تَنْسَى الْمَصَائِبْ
الهوامش:
1-بحار الأنوار ، المجلسي : 44/271 .
2-بحار الأنوار ، المجلسي : 44/279 .
3-بحار الأنوار ، المجلسي : 44/280
4-بحار الأنوار ، المجلسي : 44/284 .
5-بحار الأنوار ، المجلسي : 44/304 .
6-جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : 2/311 ـ 313 .
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية