بقيت جثّة الإمام الحسين(عليه السلام)، وجثث أهل بيته وأصحابه بعد واقعة الطف مطروحة على أرض كربلاء، ثلاث أيّام بلا دفن، تصهرها حرارة الشمس المحرقة، قال أحد الشعراء حول مصرع الإمام الحسين(عليه السلام):
هذا حسين بالحديد مقطّع متخضّب بدمائه مستشهد
عار بلا كفن صريع في الثرى تحت الحوافر والسنابك مقصد
والطيّبون بنوك قتلى حوله فوق التراب ذبائح لا تلحد
روى ابن نما الحلي عليه الرحمة في مثير الأحزان ، عن ابن عائشة قال : مرَّ سليمان بن قتيبة العدوي ومولى بني تميم بكربلاء بعد قتل الحسين(عليه السلام) بثلاث ، فنظر إلى مصارعهم فاتَّكأ على فرس له عربية وأنشأ :
مَرَرْتُ على أبياتِ آلِ محمَّد فَلَمْ أَرَها أَمْثَالَها يومَ حَلَّتِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ أضحت مريضةً لِفَقْدِ حسين والبلادَ اقشعرَّتِ
وكانوا رجاءاً ثمَّ أَضْحَوا رَزِيَّةً لَقَدْ عَظُمَتْ تلك الرزايا وجَلَّتِ
وتسألُنا قَيْسٌ فَنُعْطِي فَقِيرَها وَتَقْتُلُنا قيسٌ إذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
وعندَ غَنِيٍّ قَطْرَةٌ من دِمَائِنا سَنَطْلُبُهم يوماً بها حيثُ حَلَّتِ
فَلاَ يُبْعِدُ اللهُ الديارَ وأهلَها وَإِنْ أصبحت منهم برَغْم تَخَلَّتِ
فإِنَّ قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشم أذلَّ رِقَابَ المسلمينَ فَذَلَّتِ
وقد أَعْوَلَتْ تبكي السَّماءُ لِفَقْدِهِ وأنجمُنا ناحت عليه وصلَّتِ
جاء في مقتل الحسين(عليه السلام) للسيِّد عبد الرزّاق المقرَّم عليه الرحمة : ولما أقبل السجاد(عليه السلام) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى ، متحيِّرين لا يدرون ما يصنعون ، ولم يهتدوا إلى معرفتهم ، وقد فرَّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم ، وربما يُسْألون من أهلهم وعشيرتهم؟
فأخبرهم(عليه السلام) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة ، وأوقفهم على أسمائهم ، كما عرَّفهم بالهاشميين من الأصحاب ، فارتفع البكاء والعويل ، وسالت الدموع منهم كلَّ مسيل ، ونشرت الأسديات الشعور ، ولطمن الخدود .
ثمَّ مشى الإمام زين العابدين(عليه السلام) إلى جسد أبيه ، واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً ، وأتى إلى موضع القبر ، ورفع قليلا من التراب ، فبان قبر محفور وضريح مشقوق ، فبسط كفّيه تحت ظهره ، وقال : بسم الله وفي سبيل الله ، وعلى ملّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، صدق الله ورسوله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم ، وأنزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه ، وقال لهم : إن معي من يعينني ، ولمَّا أقرَّه في لحده وضع خدَّه على منحره الشريف قائلا : طوبى لأرض تضمَّنت جسدك الطاهر ، فإن الدنيا بعدك مظلمة ، والآخرة بنورك مشرقة ، أمَّا الليل فمسهَّد ، والحزن سرمد ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك منّي السلام ـ يا ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ ورحمة الله وبركاته ، وكتب على القبر : هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً .
ولله در الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لَمْ أَنْسَ لمَّا عاد من أَسْرِ العِدَى سرّاً لِيَدْفُنَ جِسْمَ خيرِ قتيلِ
ورآه مطروحاً وقد حفَّتْ به قومٌ تَنَحَّوا خِيْفَةَ التنكيلِ
وَمُذِ استبانوا الحُزْنَ قالوا إنَّنا جِئْنا لِنَدْفُنَ سِبْطَ خَيرِ رَسُولِ
لكنْ لِرَفْعِ الجسمِ والتحريكِ لم نَرَ كُلُّنا من قُدْرَة وسبيلِ
فَدَعَا بِبَارِيَة هناك وَلَفَّهُ فيها بلا كَفَن وَلاَ تغسيلِ
رَفَعَ الجَنَازَةَ والملائكُ من أسىً أَمُّوه بالتكبير والتهليلِ
وَلِحَمْلِهِ جاء النبيُّ وحيدرٌ والمجتبى في عَبْرَة وَعَوِيلِ
وقال عليه الرحمة على لسان الإمام زين العابدين(عليه السلام) لمَّا وضع أباه الحسين(عليه السلام) في قبره الشريف :
يَا رَاحِلا تَرَكَ الدُّنْيَا بِرِحْلَتِهِ ظَلْمَاءَ كاللَّيلِ وَالأُخْرَى اغْتَدَتْ نورا
فأنت كالشمسِ أُفْقٌ فيه قَدْ طَلَعَتْ يُضِي وَمَا عَنْهُ غَابَتْ عَادَ دَيْجورا
مُسَهَّداً لَمْ أَزَلْ ليلي عليك وَلَنْ أُرَى مِنَ الْحُزْنِ مهما عِشْتُ مسرورا
قال الراوي : ثمَّ مشى(عليه السلام) إلى عمِّه العباس(عليه السلام) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء ، وأبكت الحور في غرف الجنان ، ووقع عليه يلثم نحره المقدَّس قائلا : على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته ، وشقَّ له ضريحاً ، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد ، وقال لبني أسد : إن معي من يعينني ، نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء ، وعيَّن لهم موضعين ، وأمرهم أن يحفروا حفرتين ، ووضع في الأولى بني هاشم ، وفي الثانية الأصحاب(1).
وأما الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن ، وقيل : إن أمه كانت حاضرة ، فلمَّا رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذا المكان .
وكان أقرب الشهداء إلى الحسين(عليه السلام) ولده علي الأكبر(عليه السلام) ، وفي ذلك يقول الإمام الصادق(عليه السلام) لعبد الله بن حماد البصري : فإنَّه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زاره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثم منع الحقّ ، وتوازر عليه أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه ، وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حقّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووصيّته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفّواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة ، والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقّنا ، إلى أن قال(عليه السلام) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ، ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .
ثمَّ قال(عليه السلام) : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة ، وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاصّ يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جُعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا، ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم،يهدرونهم ويُقبّحون ما يصنعون(2) .
ولله در الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(قدس سره) إذ يقول :
رزاياكمُ يا آل بيت محمد أغصُّ لذكراهنَّ بالمنهل العذبِ
عمىً لعيون لا تفيض دموعها عليكم وقد فاضت دماكم على التربِ
وتعساً لقلب لا يمزِّقه الأسى لحرب بها قد مزَّقتكم بنو حربِ
أأنسى بأطراف الرماح رؤوسكم تطلع كالأقمار في الأنجم الشُهبِ
أأنسى طراد الخيل فوق جسومكم وما وُطأت من موضع الطَّعن والضربِ
أأنسى دماءً قد سُفِكْنَ وأدمعاً سُكبْنَ وأحراراً هُتِكنَ من الحُجبِ
أأنسى بيوتاً قد نُهبْنَ ونسوةً سُلِبْنَ وأكباداً اُذِبنَ من الرُعبِ
أأنسى اقتحام الظالمين بيوتكم تُروِّع آلَ الله بالضَّرب والنهبِ
أأنسى اضطرام النار فيها وما بها سوى صبية فرت مذعَّرة السَّرب
الهوامش:
1-مقتل الحسين(عليه السلام) ، المقرم : 320 ـ 321 ، عن الكبريت الأحمر وأسرار الشهادة والإيقاد .
2-كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية+موقع الشيعة