وفي صَباح اليومِ العاشر ، طلب الإمام الحسين ( عليه السلام ) - إتماماً للحُجَّة على أعدائه - من جيش يزيد ، أن ينصِتُوا إليه لكي يكلِّمُهم .
إلاَّ أنَّهم أبوا ذلك ، وعَلا ضَجيجهم ، وفي النهاية سَكَتوا ، فخطب فيهم معاتباً لهم على دعوتهم له ، وتخاذلهم عنه .
كما حدثهم ( عليه السلام ) بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين، من ولاة بني أمية، مِمَّا عُهد إليه من جَدِّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، وأبيه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، وهو ما تحقَّق فعلاً .
وخصَّ في ذلك عُمَر بن سعد ، الذي كان يزيد يمنِّيه بجعله والياً على الريّ وجرجان ، بأنَّ حلمه ذاك لن يتحقق، وأنَّه سوف يُقتَل، ويرفع رأسُه على الرمح .
ثم عاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) مرةً أخرى على ظهر فرسه، ووقف أمام الجيش الأموي، وخاطبهم ( عليه السلام ) قائلاً : ( أمَّا بَعد ، فانسبونِي فانظُروا مَن أنَا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هَلْ يحلُّ لَكُم قتلي ، وانتهاكُ حُرمتي ؟ .
ألسْتُ ابن بنتِ نبيِّكم ، وابن وصيِّه وابن عمِّه ، وأوَّل المؤمنين بالله ، والمصدِّق لِرسولِه بما جاء من عند رَبِّه ؟
أوَ ليس حمزة سَيِّد الشهداء عَمّ أبي ؟ أو ليسَ جَعفر الشَّهيد الطيَّار ذو الجناحين عَمِّي ؟ أوَ لَمْ يَبلُغْكُم قول مُستفيض : أنَّ رسولَ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) قال لي ولأخي : هَذان سَيِّدا شَبَاب أهل الجنة ) .
فَلَم يستجبْ له أحد ، ثمَّ خاطبهم ( عليه السلام ) قائلاً : ( أمَا تَرونَ سَيفَ رَسولِ الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولاَمَةَ حَربِه ، وعمَامتَه عليَّ ) .
قالوا : نعم .
فقال ( عليه السلام ) : ( لِمَ تُقاتِلونِي ) .
أجابوا : طَاعةً للأمير عُبَيد الله بن زياد .
واستحوَذَ الشيطان عَلى ابنِ سعد، فوضع سَهمُه في كَبد قوسه ، ثم رَمَى مُخيَّم الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقال : اِشهدُوا أنِّي أوَّل من رمى ، فتبِعَه جنده يُمطِرون آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بوابِلِ من السهام .
فعظُمَ الموقف على الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ثم خاطب أصحابه قائلاً : ( قُومُوا رَحِمكم الله إلى الموتِ الَّذي لا بُدَّ منه ، فإن هذه السِّهام رُسل القوم إليكم ) .
فلبوا ( رضوان الله عليهم ) النداء، وانطلقوا كالأسُود يُحارِبون العَدو، فاستمرت رَحَى الحرب تَدورُ في ميدان كربلاء .
وبدأ أصحاب الحسين ( عليه السلام ) يتساقطون الواحد تلو الآخر ، وقد أرهقوا جيش العدو، وأثخنوه بالجراح .
فَتَصايَح رِجالُ عُمرِ بن سعد : لو استمرَّت الحربُ بَيننا ، لأتوا على آخرنا ، لِنَهجم عليهم مَرَّة واحدة ، ولِنرشُفهُم بالنِبال والحجارة .
واستمرَّ الهجوم والزَحف نحو من بقي مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأحاطوا بهم من جهات مُتعدِّدة ، فتعالَتْ أصواتُ ابن سعد ونداءاته إلى جيشه ، وقد دخل المعسكرُ يقتل وينهب ، ويقول : اِحرقوا الخيامَ .
فضجَّت النساء ، وتصارَخَ الأطفال ، وعَلا الضجيج ، وراحت ألسِنة النار تلتهِم المخيَّم ، وسُكَّانه يفرُّون فزعين مرعوبين .
فلم يهدأ سَعير المعركة، وراح مَن بقي من أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته ، يستشهدون الواحد تلو الآخر .
فاستشهدَ وَلدُه علي الأكبر، وأخوته ، وأبناء أخيه، وابن أخته، وآل عقيل ، وآل علي ( عليه السلام ) ، مجزَّرينَ كالأضاحي، وهم يَتَناثرون في أرضِ المعركة .
وكذا بدأ شَلاَّل الدم ينحدر على أرض كربلاء ، وصَيحاتُ العطش والرُعب تتعالَى من حناجر النِساء والأطفال .
فركب الإمام الحسين ( عليه السلام ) جوادَه ، يتقدَّمُه أخوه العباس بن علي ( عليه السلام ) ، وتوجَّه نحو نَهْر الفرات ، ليحمل الماء إلى العيال ، فحالَتْ حشود العدو دونه ، فأصبح هو في جانب وأخيه في جانب آخر .
وكانَتْ للبطل الشجاع أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) صَولَةً ومعركةً حامية ، طارت فيها رؤوس، وتساقَطَتْ فرسان، وهو يصول ويجول في ميدان الجهاد، بعيداً عَن أخيه، حتى خرَّ صريعاً سابحاً بدم الشهادة .
وتعلَّق قلب أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) بِمخَيَّمه ، وما خلَّفت النار والسُيوف بأهله وحَرَمه .
فراح ( عليه السلام ) ينادي ، وقد طوَّقته قوات الأعداء وحالت بينه وبينهم ، فصاح ( عليه السلام ) بهم :
( أنَا الَّذي أقاتِلُكم ، والنِّساء لَيسَ عَليهنَّ جُناح ، فامْنَعوا عُتاتكم عن التعرُّض لحَرَمي ما دُمتُ حَيّاً ) .
إلاَّ أنَّهم استمرّوا في هُجومِهِم على المخيَّم ، ولم يعبئوا لكلامه ( عليه السلام ) .
فاستمرَّ الهُجوم عنيفاً ، والإمام ( عليه السلام ) منهمِكاً في قتال أعدائه ، إلى أن سَدَّد له أحد الأجلاف سَهماً ، واستقرَّ في نحره الشريف ، ثمَّ راحَت السُيوف والرِماح تنزل عليه كالمطر الغزير .
فلم يستطع ( عليه السلام ) مقاوَمَة الألم والنَزف، فوقع على الأرض، ولم يكفُّوا عنه ، لأنَّ روح الحِقْد والوحشيَّة التي امتلأَتْ بها جوانحهم لم تسمح بذلك .
بلْ راح المَلعُون شمر بن ذي الجوشن ، يحمل سيفه ليقطع غُصْناً من شجرة النبوَّة، وليُثكِل الزهراء ( عليها السلام ) بأعزِّ أبنائها، ففصلَ الرأسُ الشريف عن الجسد ، لِيحملَهُ هديَّة للطاغية .
ذلك الرأسُ الَّذي طَالَما سَجَد لله ، وحمل اللِّسان الذي مَا فتئ يُردّد ذكر الله، وينادي ( عليه السلام ) : ( لا أعطِيكُم بِيَدي إِعطَاء الذَّليل ، ولا أقرُّ إِقرَار العبيد ) .
الرأس الذي حَمَل العِزَّ والإباء ، ورفض أن ينحني للعتاة أو يطأطأ جَبهته للظالمين .
وهكذا وقعت الجريمة البشعة ، جريمة يوم العاشر من المحرم 61 هـ .
وكالات