الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش
جاء في بعض الزيارات الشريفة : يا سادتي ، يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتكم ، وجحدوا ولايتكم ، وأنكروا منزلتكم ، وخلعوا ربقة طاعتكم ، وهجروا أسباب مودّتكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامة الحدود ، واستئصال الجحود ، وشعب الصدع ، ولمِّ الشَعَث ، وسدِّ الخلل ، وتثقيف الأود ، وإمضاء الأحكام ، وتهذيب الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقع الحروب والفتن ، وأنحوا عليكم سيوف الأحقاد ، وهتكوا منكم الستور ، وابتاعوا بخمسكم الخمور ، وصرفوا صدقات المساكين إلى المضحكين والساخرين.
روي عن عبد الملك عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث له قال : تاسوعا يومٌ حوصر فيه الحسين (عليه السلام) وأصحابه رضي الله عنهم بكربلاء واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا فيه الحسين صلوات الله عليه وأصحابه رضي الله عنهم ، وأيقنوا أن لا يأتي الحسين (عليه السلام) ناصر ولا يمده أهل العراق ـ بأبي المستضعف الغريب .
ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول :
أبا حَسَن شكوى إليكَ وإنَّها لَوَاعِج أشجان يجيشُ بها الصدرُ
أتدري بما لاَقَتْ من الكَرْبِ والبَلاَ وما واجهت بالطفِّ أبناؤك الغُرُّ
أُعزّيك فيهم إنَّهم وَرَدُوا الردى بأَفْئِدة مَابَلَّ غُلَّتَها قَطْرُ
وثاوين في حَرِّ الهجيرةِ بالعَرَى عليهم سوافي الريحِ بالتُّرْبِ تَنْجرُّ
جاء في الروايات الشريفة : كان علي الأكبر(عليه السلام) أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب(عليه السلام) ، وقد روى المؤرِّخون أن الحسين(عليه السلام) سمَّى ثلاثة من أولاده باسم أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ حبّاً في هذا الاسم الذي انتجبه الله تعالى على الخلق بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ وهم : علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) ، وعلي الأكبر(عليه السلام) ، وعبدالله الرضيع (عليه السلام) ويسمَّى بعلي الأصغر.
وروى الشيخ الكليني عليه الرحمة ، عن عبدالرحمن بن محمد العزرمي قال : استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة ، وأمره أن يفرض لشباب قريش ، ففرض لهم ، فقال علي بن الحسين(عليهما السلام) : فأتيته فقال : ما اسمك؟ فقلت : علي بن الحسين ، فقال : ما اسم أخيك؟ فقلت : علي ، قال : علي وعلي؟! ما يريد أبوك أن يدع أحداً من ولده إلاَّ سمَّاه علياً؟ ثم فرض لي ، فرجعت إلى أبي فأخبرته ، فقال : ويلي على ابن الزرقاء دبَّاغة الأدم ، لو ولد لي مائة لأحببت أن لا أسمّي أحداً منهم إلاّ علياً.
وقد اختلف الرواة في عمره الشريف ، فقال ابن شهر آشوب ومحمد بن أبي
طالب : إنه ابن ثماني عشرة سنة ، وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة إن له يومئذ تسع عشرة سنة ، وقيل إنه ابن خمس وعشرين سنة فيكون هو الأكبر ، وروي أنه لما أُدخل علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) وعُرض على ابن زياد قال له : من أنت؟ فقال له علي بن الحسين ، فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟ فقال له علي(عليه السلام) : قد كان لي أخ يسمَّى علياً قتله الناس ، وفي رواية أنه(عليه السلام) قال لابن زياد : كان لي أخ يقال له : علي ، أكبر مني قتله الناس.
وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة في ترجمة علي الأكبر(عليه السلام) ، قال : وأمّه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وكان عروة أحد السادة الأربعة في الإسلام ، وقد أخذ علي بن الحسين(عليه السلام) الشرافة والسيادة من الطرفين ، روي في نفس المهموم : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أربعة سادة في الإسلام : بشر بن هلال العبدي ، وعدي بن حاتم ، وسراقة بن مالك المدلجي ، وعروة بن مسعود الثقفي . وكان عروة أحد رجلين عظيمين في قوله تعالى حكاية عن كفار قريش : {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} وهذا هو الذي أرسلته قريش للنبيِّ(صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية ، فعقد معه الصلح وهو كافر ، ثمَّ أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع المصطفى(صلى الله عليه وآله) من الطائف ، واستأذن النبيَّ(صلى الله عليه وآله) في الرجوع لأهله ، فرجع ودعا قومه إلى الإسلام ، فرماه واحد منهم بسهم وهو يؤذّن للصلاة فمات ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لما بلغه ذلك : مثل عروة مثل صاحب ياسين ، دعا قومه إلى الله فقتلوه ، قال : وقال(صلى الله عليه وآله) : ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود .
وليلى أم علي الأكبر أمُّها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية ، المكنَّاة بأم شيبة ، وكان معاوية خال ليلى أم علي الأكبر ، ولهذا ناداه رجل من أهل الكوفة حين برز علي الأكبر للقتال : إن لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد ، فإن شئت آمنّاك ، فقال له : ويلك ، لقرابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحقّ أن تُرعى ، وكان معاوية كثيراً يمدح علي بن الحسين(عليه السلام) حتى قال يوماً لأصحابه : من أحق الناس بالخلافة؟ قالوا : أنت ، قال : لا ، بل أحق الناس بالخلافة علي بن الحسين بن علي(عليهم السلام) جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وفيه شجاعة بني هاشم ، وسخاء بني أمية ، وزهو ثقيف ، يعني المنظر الحسن .
روي عن أبي عبيدة ، وخلف الأحمر ، أن هذه الأبيات قيلت في علي بن الحسين الأكبر ، المقتول بكربلاء :
لم تَرَ عينٌ نَظَرَتْ مِثْلَهُ من مُحْتَف يمشي وَلاَ نَاعِلِ
يَغْلِي نَهِيءَ اللَّحْمِ حَتَّى إذا أُنْضِجَ لَمْ يَغْلُ على الآكِلِ
كان إذا شَبَّت له نَارُهُ يُوقِدُها بالشَّرَفِ الْقَابِلِ
كيما يَرَاها بَائِسٌ مُرْمِلٌ أَو فَرْدُ حيٍّ ليس بالآهِلِ
أعني ابنَ ليلى ذا السَّدَى والنَّدى أعني ابنَ بنتِ الحَسَبِ الفاضلِ
لا يُؤْثِرُ الدنيا على دِيْنِهِ ولا يبيعُ الحقَّ بالباطلِ
هذا الشاعر يمدح علي بن الحسين(عليه السلام) في الجود والسخاء ، ويقول : لم ير أحد في العالم بعد الحسين(عليه السلام) في الجود والكرم ، وإطعام المسكين ، وإكرام الضيف ، وإعطاء السائلين ، مثل علي الأكبر(عليه السلام) ، وكان مولعاً وحريصاً في ذلك بحيث يشتري الأطعمة والأغذية اللذيذة ، واللحوم الطيِّبة بالقيمة الغالية ، ويأمر بطبخها وانضاجها ، ويطعم البائس والمسكين والضيوف والواردين ، وهو عليهم في غاية الشفقة واللطف والرحمة ، وكان من عادة العرب الذين يحبّون الضيف ويبالغون في إكرامه أن يشعلوا ناراً فوق البيوت في الصيف والشتاء ، في الليالي المظلمة ، حتى إذا جاءهم ضيفٌ من بعيد في الليل المظلم فبتلك النار يهتدي الطريق إلى المضيف ، ولا يتعسَّف ، ولا يضلّ الطريق ، ويسمّونها نار القرى ، وكان علي الأكبر(عليه السلام) من غاية حبِّه للضيف وإكرامه له إذا أشعل النار فوق بيته أشعلها كثيراً ، وفي غاية الاشتعال لكي يراها البائس والمسكين والمرمل واليتيم ، وينزل في داره على طعامه ، كيف وهو ربُّ الجود والسخاء والفضل والندى ورضيع الحسب والنسب ، وكان(عليه السلام)في الدين واليقين بمكان مكين بحيث لا يؤثر دنياه على دينه ، ولا يبيع الحق بالباطل .
قال : ومن كانت هذه سجيّته في الكرم وإطعام الضيوف آل أمره إلى أن وقف على أبيه(عليه السلام) وقال : يا أبتاه ، العطش قد قتلني .
وكان علي الأكبر(عليه السلام) شاباً حسن الصورة ، صبيح المنظر ، لا نظير له ، وفي الشجاعة مشهور ، وكذلك في صفات الكمال من الجلالة والعظمة والسخاء ، وحسن الأخلاق وغير ذلك.
وكان علي الأكبر(عليه السلام) من أصبح الناس وجهاً ، وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، وكان أشبه الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وذلك بشهادة سيِّد شباب أهل الجنة(عليه السلام) ، فقد روي أنه لمَّا استأذن أباه في القتال نظر إليه نظرة آيس منه ، وأرخى عينيه فبكى ، ثمَّ رفع سبَّابتيه نحو السماء وقال : اللهم كن أنت الشهيد عليهم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيِّك نظرنا إليه
ويقول الحجّة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة على لسان الحسين(عليه السلام) :
أَشبيهَ جدّي منطقاً وخلائقاً كَرُمَتْ وفي خَلْق حَلاَ وَمَعَاني
أبُنيَّ إنَّ الدهرَ فَوَّقَ سَهْمَهُ وَرَمَاك لكنْ في الفؤادِ رماني
أبُنيَّ فَقْدُكَ لم يَدَعْ مِنْ مُسْلِم إلاَّ بكاك شجاً بدَمْع قاني
إِذْ أنت سِلْوَتُهُم إذا اشتاقوا إلى رُؤْيَا النبيِّ وسيِّدِ الأكوانِ
ولله درّ الشيخ عبد الحسين العاملي عليه الرحمة إذ يقول فيه أيضاً :
جَمَعَ الصفاتِ الغُرَّ وهي تُرَاثُهُ من كُلِّ غِطْريف وشَهْم أصيدِ
في بَأْسِ حَمْزَةَ في شُجَاعَةِ حيدر وإبا الحُسَينِ وفي مَهَابَةِ أحمدِ
وتراه في خَلْق وَطِيْبِ خَلاَئق وبليغِ نُطْق كالنبيِّ محمَّدِ
يرمي الكَتَائِبَ والفلا غَصَّت بها في مِثْلِها من بَأْسِهِ المتوقِّدِ
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية