الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ
الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، ولله درّ الشيخ عبدالحسين الحياوي إذ يقول :
يعزُّ على الطهرِ البتولِ بأن ترى عزيزاً لها ملقىً وأكفانُهُ العَفْرُ
يعزُّ عليها أَنْ تراه محرَّماً عليه فُرَاتُ الماءِ وهو لها مَهْرُ
يعزُّ على المختارِ أن سليلَهُ يُرَضُّ بعتب العادياتِ له صَدْرُ
فَلاَ صبرَ محمودٌ بقتلِ ابنِ فاطم وليس لمن لم يجرِ مَدْمَعُهُ عُذْرُ
روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين(عليه السلام) في خرجته إلى صفين ، فلمَّا نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته : يا ابن عباس ، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين ، فقال(عليه السلام) : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي .
قال : فبكى طويلا حتى اخضلّت لحيته ، وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معاً وهو يقول : أوه أوه ، مالي ولآل أبي سفيان؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟ صبراً يا أبا عبدالله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم .
ثمَّ دعا بماء فتوضَّأ وضوء الصلاة ، فصلَّى ما شاء الله أن يصلي ، ثمَّ ذكر نحو كلامه الأول إلاَّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثمَّ انتبه فقال : يا ابن عباس ، فقلت : ها أنا ذا ، فقال : ألا أحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي؟ فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين .
قال : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلَّدوا
سيوفهم وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة ، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه ، يستغيث فيه فلا يغاث ، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول ، فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنة ـ يا أبا عبدالله ـ إليك مشتاقة ، ثم يُعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشر ، فقد أقرَّ الله به عينك يوم يقوم الناس لربِّ العالمين .
ثمَّ انتبهت هكذا ، والذي نفس عليٍّ بيده ، لقد حدَّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم(صلى الله عليه وآله) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يُدفن فيها الحسين(عليه السلام) وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة (عليها السلام) ، وإنها لفي السماوات معروفة ، تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين ، وبقعة بيت المقدس .
ثمَّ قال لي : يا ابن عباس ، اطلب في حولها بعر الظباء ، فوالله ما كذبت ولا كُذبت ، وهي مصفرَّة ، لونها لون الزعفران ، قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة ، فناديته : يا أمير المؤمنين ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي ، فقال علي(عليه السلام) : صدق الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) .
ثم قام(عليه السلام) يهرول إليها فحملها وشمَّها ، وقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمَّها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرَّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا الظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسى وجلس الحواريون معه ، فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى . فقالوا : يا روح الله وكلمته ، ما يبكيك؟ قال : أتعلمون أيَّ أرض هذه؟ قالوا : لا ، قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد(صلى الله عليه وآله) ، وفرخ الحرَّة الطاهرة البتول شبيهة أمي ، ويُلحد فيها ، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد ،
وهكذا يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، فهذه الظباء تكلِّمني وتقول : إنها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض ، ثمَّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمَّها وقال : هذه بعر الظباء على هذه الطيب لمكان حشيشها ، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمَّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة .
قال : فبيقت إلى يوم الناس هذا ، وقد اصفرَّت لطول زمانها ، وهذه أرض كرب وبلاء ، ثم قال بأعلى صوته : يا ربّ عيسى بن مريم! لا تبارك في قتلته ، والمعين عليه ، والخاذل له .
ثمَّ بكى بكاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا ، ثم أفاق فأخذ البعر فصَّره في ردائه ، وأمرني أن أصرَّها كذلك ، ثم قال : يا ابن عباس ، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ، ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبدالله قد قتل بها ، ودفن .
قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشدَّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزَّ وجلَّ عليَّ ، وأنا لا أحلّها من طرف كمّي ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً ، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً ، فجلست وأنا باك وقلت : قد قتل والله الحسين ، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدَّثني ، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلاَّ كان كذلك؛لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره ، ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين ، ثمَّ طلعت الشمس ورأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط ، فجلست وأنا باك فقلت : قد قُتل والله الحسين (عليه السلام) ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
اصبروا آل الرسول قُتل الفرخ النحول
نزل الروح الأمين ببكاء وعويل
ثم بكى بأعلى صوته وبكيت ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر المحرم يوم عاشورا لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك ، فحدَّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه ، فقالوا : والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولا ندري ما هو ، فكنا نرى أنه الخضر(عليه السلام)( بحار الأنوار، المجلسي : 44/252)
وعن جرداء بنت سمين ، عن زوجها هرثمة بن أبي مسلم ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب(عليه السلام) صفين ، فلمَّا انصرفنا نزل بكربلا فصلَّى بها الغداة ، ثم رفع إليه من تربتها فشمَّها ، ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب .
فرجع هرثمة إلى زوجته ـ وكانت شيعة لعلي(عليه السلام) ـ فقال : ألا أحدِّثك عن وليِّك أبي الحسن؟ نزل بكربلا فصلَّى ، ثم رفع إليه من تربتها فقال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ، قالت : أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يقل إلاّ حقاً .
فلما قدم الحسين(عليه السلام) قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم عبيدالله بن زياد لعنهم الله ، فلمَّا رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث ، فجلست على بعيري ، ثمَّ صرت إلى الحسين(عليه السلام) فسلَّمت عليه ، وأخبرته بما سمعت من أبيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين ، فقال : معنا أنت أم علينا؟ فقلت : لا معك ولا عليك ، خلَّفت صبية أخاف عليهم عبيدالله بن زياد ، قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا ، ولا تسمع لنا صوتاً ، فوالذي نفس حسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلاَّ كبَّه الله لوجهه في نار جهنم.
وعن القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه(عليهما السلام) قال : مرَّ علي بكربلاء ، في اثنين من أصحابه ، قال : فلمّا مرَّ بها ترقرقت عيناه للبكاء ، ثمَّ قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وههنا تهراق دماؤهم ، طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبة.
ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
فَيَا ساكني أرضِ الطفوفِ عليكُمُ سَلاَمُ محبٍّ ماله عنكُمُ صَبْرُ
نشرْتُ دواوينَ الثَّنَا بَعْدَ طَيِّها وفي كلِّ طرس من مديحي لكم سَطْرُ
فطابق شعري فيكُمُ دَمْعُ ناظري فَمُبْيَضُّ ذا نَظْمٌ ومُحْمَرُّ ذا نَثْرُ
فَلاَ تتهموني بالسلوِّ فإنّما مواعيدُ سلواني وحقِّكُمُ الحشرُ
فذلّي بكم عزٌّ وفقري بكم غِنىً وعُسْري بكم يُسْرٌ وكسري بكم جَبْرُ
ترقُّ بروقُ السُّحْبِ لي من ديارِكم فينهلُّ من دمعي لِبَارِقِها الْقَطْرُ
فعينايَ كالخنساءِ تجري دموعُها وقلبي شديدٌ في محبَّتِكم صَخْرُ
وَقَفْتُ على الدارِ التي كنتُمُ بها فَمَغْناكُمُ من بَعْدِ معناكُمُ قَفْرُ
فَرَاقَ فِرَاقُ الروحِ لي بَعْدَ بُعْدِكم وَدَارَ بِرَسْمِ الدارِ في خاطري الفكرُ
وقد أقلعت عنها السحابُ ولم تَجُدْ ولا درَّ من بَعْدِ الحسينِ لها دَرُّ
إمامُ الهدى سِبْطُ النبوَّةِ وَالِدُ الـ أئمةِ ربُّ النهيِ مولىً له الأمرُ
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية