الشيخ عبدالله إبن الحاج حسن آل درويش
جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدورهم الغصص ، فنحن نُشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم
المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليّي يبلِّغكم منّي السلام.
روي عن ابن عباس، قال: قال علي(عليه السلام) لرسول الله(صلى الله عليه وآله) : يا رسول الله ، إنك لتحبّ عقيلا؟ قال : إي والله ، إنّي لأحبُّه حبين : حبّاً له ، وحباً لحبِّ أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ،وتصلّي عليه الملائكة المقرَّبون، ثمَّ بكى رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتى جرت دموعه على صدره ، ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي(الأمالي ، الصدوق : 191 ح 3).
قال الراوي فيما يخص أمر مسلم بن عقيل(عليه السلام) في الكوفة : إن ابن زياد دعا كثير بن شهاب ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه في مذحج ، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل (عليه السلام) ، ويخوِّفهم الحرب ، ويحذّرهم عقوبة السلطان ، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ، فيرفع راية أمان لمن جاء من الناس ، وقال مثل ذلك لقعقاع الذهلي ، وشبث بن ربعي التميمي ، وحجار بن أبجر السلمي ، وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس .
فخرج كثير بن شهاب يخذّل الناس عن مسلم ، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة ، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث عبدالرحمن بن شريح الشيباني ، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخَّر عن مكانه ، وجعل محمد بن الأشعث ، وكثير بن شهاب ، والقعقاع بن ثور الذهلي ، وشبث بن ربعي يردّون الناس عن اللحوق بمسلم ، ويخوّفونهم السلطان ، حتى اجتمع إليهم عدد
كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين ، ودخل القوم معهم .
فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك ، فاخرج بنا إليهم ، فأبى عبيدالله ، وعقد لشبث بن ربعي لواء وأخرجه ، وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء ، وأمرهم شديد ، فبعث عبيدالله إلى الأشراف فجمعهم ، ثمَّ أشرفوا على الناس فمنَّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوَّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم .
وتكلَّم كثير بن شهاب حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال : أيها الناس ، الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشرَّ ، ولا تعرِّضوا أنفسكم للقتل ، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً لئن تممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيَّتكم ، أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ، ويفرِّق مقاتليكم في مفازي الشام ، وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها ، وتكلَّم الأشراف بنحو من ذلك .
فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرَّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف! الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه ويقول : غداً تأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف! فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرَّقون حتى أمسى ابن عقيل ، وصلَّى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد .
فلمّا رأى أنه قد أمسى وليس معه إلاّ أولئك النفر خرج متوجهاً إلى أبواب كندة ، فلم يبلغ الأبواب إلاَّ ومعه منه عشرة ، ثمَّ خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان يدلّه ، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ ، فمضى على وجهه متلدِّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب؟ حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة ، فمضى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ، أم ولد كانت للأشعث بن قيس ، وأعتقها وتزوَّجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس ، وأمه قائمة تنتظره .
فسلَّم عليها ابن عقيل فردَّت عليه السلامَ ، فقال لها : يا أمة الله ، اسقيني ماء ، فسقته وجلس ، ودخلت ثمَّ خرجت فقالت : يا عبدالله ، ألم تشرب؟ قال : بلى ، قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت ، ثمَّ أعادت مثل ذلك ، فسكت ، ثم قالت في الثالثة : سبحان الله! يا عبدالله ، قم عافاك إلى أهلك ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ، ولا أحلّه لك ، فقام وقال : يا أمة الله ، ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت : يا عبدالله ، وما ذاك؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم ، وغرّوني وأخرجوني ، قالت : أنت مسلم؟! قال : نعم ، قالت : ادخل .
فدخل إلى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له وعرضت عليه العشا فلم يتعش ، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال لها : والله إنه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ، إن لك لشأناً ، قالت له : يا بنيَّ ، الهُ عن هذا ، قال : والله لتخبريني ، قالت له : أقبل على شأنك ، ولا تسألني عن شيء ، فألحَّ عليها فقالت : يا بنيّ ، لا تخبرن أحداً من الناس بشيء مما أخبرك به ، قال : نعم ، فأخذت عليه الأيمان فحلف لها ، فأخبرته فاضطجع وسكت .
وأصبح ابن تلك العجوز فغدا إلى عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث ، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمه ، فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارَّه ، فعرف ابن زياد سراره ، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه : قم فأتني به الساعة ، فقام وبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل .
فبعث معه عبيدالله بن عباس السلمي في سبعين رجلا من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، فلمَّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتي .
وفي رواية : فعجَّل دعاءه الذي كان مشغولا به بعد صلاة الصبح ، ثمَّ لبس لامته وقال لطوعة : قد أدَّيتِ ما عليك من البر ، وأخذتِ نصيبك من شفاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، ولقد رأيت البارحة عمي أمير المؤمنين(عليه السلام) في المنام وهو يقول لي : أنت معي في الجنة وخرج إليهم مصلتاً سيفه وقد اقتحموا عليه الدار ، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، قال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : فحمل مسلم عليهم وهو يقول :
هو الموتُ فاصنع وَيْكَ ما أنت صَانِعُ فأنتَ لكأسِ الموتِ لا شكَّ جَارِعُ
فصبراً لأمرِ اللهِ جَلَّ جلالُهُ فَحُكْمُ قَضَاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ
فقتل منهم واحداً وأربعين رجلا.
قال محمد بن أبي طالب : لما قَتل مسلم منهم جماعة كثيرة ، وبلغ ذلك ابن زياد ، أرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟ فأرسل ابن الأشعث : أيها الأمير ، أتظنّ أنك بعثتني إلى بقَّال من بقالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة
الحيرة؟ أو لم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كفّ بطل همام ، من آل خير الأنام ، فأرسل إليه ابن زياد : أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلاّ به . وفي رواية قال : وإنما أرسلتني إلى سيف من أسياف محمد بن عبدالله(صلى الله عليه وآله) ، فمدّه بالعسكر.
قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في بعض كتب المناقب عن عمرو بن دينار قال : أرسل الحسين(عليه السلام) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد ، قال عمرو وغيره : لقد كان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده ، فيرمي به فوق البيت.
رجعنا إلى رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : ثمَّ عادوا إليه ، فشدَّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ، فضرب بكر فم مسلم ، فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة ، وثنَّاه بأخرى على حبل العاتق ، كادت تطلع إلى جوفه .
فلمَّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجاة ، ويلهبون النار في أطنان القصب ثمَّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكة ، فقال محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقسمتُ لا أُقتلُ إلاّ حرّا وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكْرا
ويُخْلَطُ الباردُ سُخْناً مرّا رَدَّ شُعَاعَ الشمس فاستقرّا
كلُّ امرىء يوماً ملاق شراً أخافُ أن أُكْذَبَ أو أُغرَّا
فقال له محمد بن الأشعث : إنك لا تكذب ولا تغرّ ولا تخدع ، إن القوم بنو
عمك ، وليسوا بقاتليك ، ولا ضائريك ، وكان قد أثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال فانتهز واستند ظهره إلى جنب تلك الدار .
و جاء في بعض الروايات : وأثخنته الجراحات وأعياه نزف الدم فاستند إلى جنب تلك الدار ، فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة ، فقال : ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار؟ ألا ترعون حقّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عترته؟ فقال له ابن الأشعث : لا تقتل نفسك وأنت في ذمتي ، قال مسلم(عليه السلام) : أؤسر وبي طاقة؟ لا والله لا يكون ، لا يكون ذلك أبداً ، وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثمَّ حملوا عليه من كل جانب ، وقد اشتد به العطش ، فطعنه رجل من خلفه فسقط إلى الأرض وأسر.
وقيل : إنهم عملوا له حفيرة وستروها بالتراب ، ثمَّ انكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه.
ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
فللهِ من مُفْرَد أسلموه لحكم الدعيِّ فما استسلما
وآثَرَ وهو وليدُ الأُبَاةِ بأَنْ يَرْكَبَ الأخطرَ الأعظما
ولمَّا رأوا بَأْسَه في الوغى شديداً يُجَلُّ بأَنْ يُرْغَما
أطلُّوا على شُرُفَاتِ السُّطُوحِ ويَرْمُونَهُ الْحَطَبَ المُضْرَما
ولولا خديعتُهُمْ بالأمانِ لَمَا أوثقوا الأَسَدَ الضَّيْغَما
وفي رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان ، فقال : آمنٌ أنا؟ قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه : ألي الأمان؟ قال القوم له : نعم ، إلاَّ عبيدالله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ،
ثمَّ تنحَّى .
فقال مسلم : أما لو لم تأمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فأتي ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ، ثمَّ قال : هذا أول الغدر ، فقال له محمد بن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، قال : وما هو إلاَّ الرجاء؟ أين أمانكم؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عبيدالله بن العباس : إن من يطلب مثل الذي طلبت إذا ينزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، قال : والله إني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنتُ لم أحبَّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين ، إني أبكي للحسين وآل الحسين(ع).
ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال : يا عبدالله ، إني أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني أن يبلغ حسيناً ـ فإني لا أراه إلاّ وقد خرج اليوم أو خارج غداً وأهل بيته ـ ويقول له : إن ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في يد القوم لا يرى أنه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول لك : ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي ، فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنَّ ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك .
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، واستأذن فأذن له ، فدخل على عبيدالله بن زياد ، فأخبره خبر ابن عقيل ، وضرب بكر إياه ، وما كان من أمانه له ، فقال له عبيدالله : وما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه ، إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر ، وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ، ينتظرون الإذن ، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب ، وإذا قلّةٌ باردةٌ موضوعةٌ على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء .
فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها؟! لا والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم ، فقال له ابن عقيل : ويحك ، من أنت؟ فقال : أنا الذي عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وأطاعه إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ، ما أجفاك واقطعك وأقسى قلبك! أنت ـ يا ابن باهلة ـ أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني .
ثم جلس فتساند إلى حائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبَّ فيه ماء ، فقال له : اشرب، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ، ولا يقدر أن يشرب ، ففعل ذلك مرتين ، فلمَّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته . ولله درّ من قال من الشعراء :
عينُ جودي لمسلمِ بنِ عقيلِ لرسولِ الحسينِ سبطِ الرسولِ
لغريب بَيْنَ الأعادي وحيد وقتيل لنَصْرِ خيرِ قتيلِ
وابكِ مَنْ قد بكاه أحمدُ شجواً قَبْلَ ميلادِهِ بعهد طويلِ
وبكاه الحسينُ والآلُ لمَّا جاءهم نَعْيُه بدمع هَمُولِ
تركوه لدى الهِيَاجِ وحيداً لعدوٍّ مُطالب بذُحُولِ
ثمَّ ساقوه بينهم يتهادى للدعيِّ الرذيلِ وابنِ الرذيلِ
ظامياً طاوياً عليلا جريحاً طالباً منهُمُ رُوَاءَ الغليلِ
قال الراوي : وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه ، فلمَّا دخل لم يسلِّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : ألا تسلِّم على الأمير؟ فقال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ؟ ! ، وفي رواية السيد ابن طاووس قال : فقال له : اسكت ويحك ، والله ما هو لي بأمير ، فقال ابن زياد : لا عليك ، سلَّمت أم لم تسلِّم فإنك مقتول ، فقال له مسلم : إن قتلتني فلقد قتل مَنْ هو شرٌّ منك من هو خير مني ، وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فقال له ابن زياد : يا عاقّ ، يا شاقّ ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة بينهم .
فقال له مسلم : كذبت يا بن زياد ، إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته.
فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي ،قال : افعل ، فنظر مسلم إلى جلساء عبيدالله بن زياد،
وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي ، وهي سرٌّ ، فامتنع عمر أن يسمع منه ، فقال له عبيدالله بن زياد : لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له : إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبع مائة درهم ، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين(عليه السلام) من يردّه ، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلاّ مقبلا .
فقال عمر لابن زياد : أتدري ـ أيها الأمير ـ ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا فقال ابن زياد : إنه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن ، أمّا ماله فهو له ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحبَّ ، وأمّا جثّته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها ، وأمّا حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده .
ثمَّ قال ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت الناس وهم جمع فشتَّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض ، قال : كلا لست لذلك أتيت ، ولكنَّ أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الكتاب ، فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق؟ لِمَ لمْ تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟
قال مسلم : أنا أشرب الخمر؟ أما ـ والله ـ إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك قد قلت بغير علم ، وأني لست كما ذكرت ، وأنك أحقّ بشرب الخمر مني ، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النفس التي حرَّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرَّم الله على الغصب والعداوة ، وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب ، كأن لم يصنع شيئاً .
فقال له ابن زياد : يا فاسق ، إن نفسك منَّتك ما حال الله دونه ، ولم يرك الله له
أهلا ، فقال مسلم : فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟ فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد ، فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم ، فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس .
فقال له مسلم : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلِّمه .
ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
وجاؤوا به مُثْقَلا بالجراحِ ظمآن أعياهُ نَزْفُ الدِّمَا
غَريبَ الدِّيَارِ فَدَتْكَ النفوسُ تُكَابِدُ وَحْدَكَ ما استُعظما
أَتُوْقَفُ بين يَدَيْ فاجر ويسقيك من كَأْسِهِ العلقما
ويشتمُ أُسْرَتَك الطيِّبين وقد كان أولى بأَنْ يُشْتََما
وَتُقْتَلُ صبراً ولا ناصرٌ وَلاَ مَنْ يقيمُ لك المأتما
ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر ، فاضربوا عنقه ، ثم أتبعوا جسده ، فقال مسلم (عليه السلام) : والله لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، فقال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدعا بكر بن حمران الأحمري ، فقال له : اصعد فليكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به ، وهو يكبِّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، وأشرفوا به على موضع الحذّائين اليوم ، فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه.
وقال المسعودي : دعا ابن زياد بكير بن حمران الذي قتل مسلماً ، فقال : أقتلته؟ قال : نعم ، قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال : كان يُكبِّر ويُسبِّح ويُهلِّل ويستغفر الله ، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا ثم خذلونا وقتلونا ، فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك ، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً ، فقال لي : أوما يكفيك فيَّ خدش مني وفاء بدمك أيها العبد؟ قال ابن زياد : وفخراً عند الموت؟ قال : وضربته الثانية فقتلته.
ولما قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمة الله عليهما بعث ابن زياد برأسيهما مع هانىء بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد ابن معاوية . . .
وفي مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمهما الله يقول عبدالله بن الزبير الأسدي
فإن كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري إلى هانىء في السوقِ وابنِ عقيلِ
إلى بَطَل قد هشَّمَ السيفُ وَجْهَه وآخَرَ يهوي من طِمَارِ قتيلِ
أصابهما أمرُ اللعينِ فأصبحا أحاديثَ مَنْ يسري بكلِّ سبيلِ
ترى جسداً قد غيَّر الموتُ لَوْنَهُ وَنَضْحَ دم قد سال كلَّ مَسِيلِ
فتىً كان أحيى من فتاة حيّية وَأقْطَعَ من ذي شفرتينِ صقيلِ
أيركبُ أسماءُ الهماليجَ آمناً وقد طالبته مَذْحجٌ بذُحُولِ
تُطِيفُ حواليه مُرَادٌ وكلُّهم على رقبة من سائل ومسولِ
المصدر:المجالس العاشورية في المآتم الحسينية