إنَّ كلَّ صفحةٍ مِن صفحاتِ التاريخ يمكن أن نستلَّ منها الدروس ونستلهم منها العِبَر، من أعلامٍ أبت أن يتجاهلها الزمن بتقادمه ويلفَّها النسيان كما لفَّ الكثير غيرها، مِن أولئك النجوم، شهداء الطفِّ الخالدون؛ أصحاب الامام الحسين، عليه السلام، الذين عبّر عنهم بقوله: «...ألا فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً مِن أصحابي»، أولئك الذين اختاروا الموت في سبيل الله والعزّة والكرامة، وفضّلوا الشهادة في سبيل إمام زمانهم بعزٍّ وشرف على الحياةِ معَ غيرِه بذلّةٍ وهوان.
والمعروف أن واقعة كربلاء انتهت باستشهاد جميع من في معسكر الإمام الحسين، عليه السلام، ثم هجوم الأعداء على مخيم النساء، وحرقها وسبي عيال الامام، عليه السلام، بيد أن الأمر لم يكن كذلك، وعندما نقول أن معركة كربلاء مستمرة من حيث المفهوم والمبدأ، وأن «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء»، ما دام الصراع دائر الى يوم القيامة بين الحق والباطل، فان أول مصداق أكده على أرض الواقع هو ذلك التابعي الجليل الذي وصل متأخراً ليلبّي نداء الإمام الحسين وينصره في حياته، لكنه حاز التوفيق العظيم وتسجيل اسمه مع أصحاب الإمام، من الشهداء الأبرار.
إنه الهفهاف بن المهنّد الراسبي الأزدي البصري، ذلك الفارِس البصري الشُّجَاع الذي برَزَ اسمُه مُدافِعَاً عنَ نهج الحسين، عيه السلام، وكان مِن الشيعة المخلِصين في ولائهم لأهل البيت، عليهم السلام، له ذكر في المغازي والحروب.
من الذين صحِبوا أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السلام، وخاضوا معه حروبه أيّام خلافته، وكان من قادة جيشه. سكن البصرة، وكان واحداً من الذين خرجوا منها مخترقين حصار ابن زياد ليلتحقوا بالإمام الحسين عليه السلام، وكان وصوله إلى كربلاء عصر يوم العاشر من محرم بعد استشهاد الإمام صلوات الله عليه.
وصل إلى كربلاء قادماً من البصرة بعد سماع أخبار الامام الحسين وما جرى في الكوفة، ثم تعبئة الجيش لقتال الامام في كربلاء، ولبعد المسافة، وصل أرض كربلاء وهي مخضبة بالدماء مليئة بالأشلاء وقد تصاعدت أعمدة الدخان من الخيام، ورفعت الرؤوس على الرماح وانتهى كل شيء.
لما وصل أرض كربلاء، فسأل الجيش: أين الحسين؟
قالوا: من أنت؟
أجابهم: أنا الهفهاف بن المهنّد الراسبي، جئتُ من البصرة لنصرة الحسين.
قالوا: لقد قتلنا الحسينَ وأصحابه، أما ترى القوم ينهبون خيمه؟
فما كان منه إلّا أن جرّد سيفه، وأخذ يقاتلهم وهو يرتجز:
يا أيّها الجندُ المجنَّدْ أنا الهفهافُ بن المهنّدْ
أحمي عيالات محمّدْ
وصار يقتل كلَّ مَن دنا منه، حتّى نادى عمر بن سعد: ويلكم! احمِلوا عليه. فحملوا عليه من كلّ جانب حتّى قتلوه رضوان الله عليه ، ثم احتزوا رأسه، ليكون آخر من لبّى نداء الامام الحسين ويُستشهد على أرض كربلاء وهو يحمل في قلبه نيّة الدفاع عن الامام الحسين وأهل بيته، عليهم السلام.
المصدر:مجلة شعائر+مجلة الهدى