السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
هل التزم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتكليف واحد في مكّة والمدينة؟ التكليف قد تغيّر وَفقاً لتغيُّر الظروف، ولم يكن التكليف ثابتاً في مختلف الظروف والأحوال. في هذا المقال سنطلّ على مرحلة إمامتي الحسن و الحسين عليه السلام بصفتهما إمامين و قائدين قاما أو قعدا و تكليف كل واحد منهما عليهما السلام.
* واقع الأمّة المرير
إنّ بيان الواقع العام الذي كانت تعيشه الأمّة سوف يحدّد المسار والموقف والتكليف الذي ينبغي للإمام الحسين عليه السلام اتخاذه. كانت الأمّة تعيش في ظلّ حكومة معاوية بن أبي سفيان، الذي حصل على السلطة بالغلبة، وبالقوّة، وبالعنف، وبالإرهاب، وفي ظلّ الصلح المفروض، الذي اقتضت مصلحة الأمّة والإسلام -على أساسه- أن يسلّم الإمام الحسن عليه السلام السلطة السياسيّة فقط -لا الإمامة والخلافة- إلى معاوية.
كان يحكم الواقع سلطة مركزية شديدة، يهيمن فيها بنو أمية على كلّ شيء. فقد كان الولاة في كلّ المناطق من شبّان بني أميّة، ومن صبيتهم، وقد تعاملوا مع الأمّة على أنّها بستانٌ لهم، يجلسون أينما يريدون ويقطعون الشجرة التي يريدونها، ويأكلون الفاكهة التي يريدونها، ويصادرون ما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون، وهذا معروف وموجود في كتب التاريخ. وكلّه كان تحت نظر الإمام الحسين عليه السلام. خلال هذه السنوات العشر؛ أي بعد أربعين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان الطلقاء وأبناء الطلقاء يحكمون الأمّة. لقد دارت الدنيا سريعاً، فإذا بالطلقاء وأبناء الطلقاء يحكمون الأمّة، وينهبون مالها، ويهتكون أعراضها، وينشرون فيها الفساد. هذا كلّه كان مقدّمات لقيام الإمام الحسين عليه السلام.
* الإمام الحسن عليه السلام والصلح
لم يقم الإمام عليه السلام في زمن معاوية بمواجهة مسلّحة، ولا بثورة علنيّة، بل استخدم وسائل أخرى يجتنب فيها المواجهة المكشوفة -طبعاً هذا لا يعني أنّه لم يفعل شيئاً- لكنْ كان تكليفه يُملي عليه تجهيز المقدّمات، وتجنّب المواجهة العلنيّة طالما أنّ معاوية على رأس السلطة.
لقد كان الإمام عليه السلام حريصاً جدّاً -ولو في الشكل- على أن يحافظَ على الصلح مع معاوية، وألّا يقال إنّه عليه السلام ذهب إلى مواجهة علنيّة مع معاوية ناقضاً للصلح، مع العلم أنّ معاوية لم يُبقِ من هذا الصلح شيئاً منذ اليوم الأول. وعندما دخل إلى الكوفة، وبحضور الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام وكلّ وجوه من بقي من مهاجرين وأنصار وصحابة وكبار القوم في ذلك الزمن، وقف وقال لأهل الكوفة: "إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا. إنّكم لتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم..."(1). وعليه، إنّنا نجد مشروع إسلام عند الإمام الحسن عليه السلام فيما نجد لدى معاوية مشروع سلطة، وسلطة مطلقة، لذا، أعلن معاوية نقضه للصلح من اليوم الأول، "ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمَيّ هاتَين لا أفي به"(2).
أمّا الإمام الحسن عليه السلام فقد شخّص أنّه في ظلّ حكومة معاوية بن أبي سفيان لا يمكن القيام بأيّ مواجهة علنيّة معه؛ لأنّه نتيجة طريقته ودهائه، وسيطرته وإمكاناته، واتّساع نفوذه في الأمّة، يستطيع أن يحاصر هذه المواجهة ويستوعبها ويجهضها ويضرب أهدافها. وبالتالي، ما قد تحقّقه المواجهة المكشوفة -التي يمكن أن تؤدّيَ إلى الشهادة- سيضيع وسط الصحراء؛ فلننتظر حتى ينتهي هذا الرجل ونتّخذ الموقف المناسب.
* تحرّك الإمام الحسين عليه السلام
من أشدّ المحن التي واجهها الإمام الحسين عليه السلام في زمن معاوية، هو الضغط الذي مارسه معاوية لفرض البيعة ليزيد في حياته. وهذا كان خلاف الصلح. فقد كانت شروط الصلح تقضي بانتقال السلطة بعد موت معاوية إلى الإمام الحسن عليه السلام، فإذا لم يكن الحسن عليه السلام موجوداً فتنتقل إلى الإمام الحسين عليه السلام. وعلى الرغم من ذلك، كان معاوية يريد أخذ البيعة من الأمّة ليزيد بالمال، وبالترغيب، وبالترهيب، وبالتهديد، وبالقهر وبالجلب... إلّا أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان صلباً وشديداً تجاه هذا الأمر؛ إذ بعد موت معاوية، اختلف تكليف الإمام الحسين عليه السلام؛ لاختلاف الظرف، واختلاف الحاكم، وأصبح التهديد مختلفاً، والفرص مختلفة... نعم، هو استمرار للمشروع نفسه، لكنّ الأساليب أصبحت مختلفة عند السلطة، وبالتالي عند الإمام عليه السلام. عندها ذهب الإمام الحسين عليه السلام إلى خيار المواجهة منذ اللحظة الأولى.
* انتصار الثورة
إنّ الحركة الحسينية لم يكن مقدّراً لها النصر العسكريّ والمباشر، سواء في زمن معاوية أو في زمن يزيد، بسبب الظروف وقلّة الأنصار وتخاذل الأمّة... وهذا لا يعني أنّه كان للإمام أنصارٌ في زمن يزيد لم يكونوا في زمن معاوية. كلّا، الأمر ليس كذلك، بل ما حصل هو أنّ الخيار اختلف، وأنّ الحركة الحسينية التي قامت لتواجه المشروع بكامله ولكن بعنوان يزيد استطاعت أن تنتصر. والدليل على انتصارها هو الحضور الكبير في المجالس الحسينيّة بعد 1400 سنة، وبقاء الإسلام المحمّدي الأصيل، و كلمة الإمام زين العابدين عليه السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: مَن غلب؟ [فقال الإمام السجّاد عليه السلام]: "إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذّن ثم أقم [تعرف من الغالب]"(3).
* التزامٌ فانتصار
إذاً، كان التزام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتكليف منذ اللّحظة الأولى إلى وفاته ومغادرته الدنيا التزاماً دقيقاً، أدّى إلى انتصار المشروع النبويّ، وكذا الالتزام الدقيق بالتكليف عند الإمام الحسين عليه السلام أدّى إلى تجديد الحياة وإلى صيانة المشروع النبويّ، وهذا أحد معاني "حسينٌ مني وأنا من حسين عليه السلام". كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المرحلة المكيّة يملك صبراً شديداً، خاصّةً أنّ معاناة المرحلة المكيّة شديدة؛ لأنّ تكليفه صلى الله عليه وآله وسلم كان أن يصبر وأن يتحمّل. ومن السهل على الفرد أن يذهب للقتال -ففي القتال يفرغ المرء كلّ الغضب الكامن داخله- بينما من الصعب عليه الصبر. تصوّروا ما هي النتيجة لو أخذت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحماسة -والعياذ بالله- في مكّة ولم يتحمّل الإهانات.
إنّنا نتعرض للأذى والشتائم، ونحن اليوم لو أردنا أن نردّ على الفايسبوك وعلى وسائل الإعلام على كل أذيّة أو شتيمة، أو إهانة نتعرّض لها، عندها سيبقى السيف على أكتافنا ونجوب به الكرة الأرضية، فهل هذا هو تكليفنا؟ بالطبع لا.
* مظلومية الإمام الحسن عليه السلام
قد يطرح أحدٌ ما سؤالاً: هل كان الإمام الحسين عليه السلام في زمن يزيد شجاعاً ولم يكن -والعياذ بالله- شجاعاً في زمن معاوية؟ هل صار أبيّاً للضيم في زمن يزيد ولم يكن أبيّاً للضيم في زمن معاوية؟ هل كان يرفض الذلّ في زمن يزيد ولم يكن كذلك في زمن معاوية؟
والجواب: كلّا، فالإمام الحسين عليه السلام هو الإمام الحسين عليه السلام بشجاعته، بعظمته، بإبائه للضيم، برفضه للظلم والذلّ والهوان...، هو نفسه. الإمام الحسين عليه السلام لا يتّبع هنا انفعالاته، بل ولا حتّى إمكانيّاته الشخصية أو غير ذلك...، بل يتبع تكليفه. ما هو تكليفه؟ ما هي مسؤوليته الشرعية؟ الأمر نفسه ينسحب على الإمام الحسن عليه السلام. لقد وُجِّهت إهانة تاريخية للإمام الحسن عليه السلام، لم تقتصر على الذين لا يؤمنون بإمامته، بل شملت حتّى بعض من آمن به، الذين قالوا له بعد الصلح: "السلام عليك يا مذلّ المؤمنين"(4). وهؤلاء من خيرة النخب والخواص. هؤلاء لم يستوعبوا الموقف. ليبدأوا بعدها بالتحليل والكتابة عن سبب ذهاب الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح، وكان أن ذهبوا إلى الميزات الشخصية غير الصحيحة، فقالوا إنّ الحسن كان يحب الدِّعة، ويحب الطمأنينة، ويميل إلى السلام، ويكره سفك الدماء، لذا ذهب إلى الصلح... وهذا ظلم للإمام الحسن عليه السلام، لا بل أكبر ظلم وأكبر إهانة له عليه السلام. ومن واجبنا في أيام كربلاء أن ندافع عن إمامنا عليه السلام. لقد كان تكليف الإمام الحسن عليه السلام أن يمضيَ بالصلح، ولذلك -وبكل بساطة- لو افترضنا أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الإمام سنة 40 للهجرة بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام لَصَالَح الإمام الحسين معاوية في تلك الظروف، ولو كان الإمام الحسن عليه السلام هو الإمام في أواخر 60 للهجرة وبداية 61 للهجرة، وطُلب منه أن يبايع يزيد لفعل ما فعله الإمام الحسين عليه السلام. هي الشجاعة نفسها، العظمة نفسها، الإباء نفسه، الاستعداد للتضحية نفسه، هو العشق للشهادة نفسه. وهذا الأمر نفسه يصحّ بالنسبة إلى الأئمّة بعد الحسين عليه السلام.
* كلٌّ له تكليفه
يمكن أن يختلف التكليف من شخص إلى آخر ومن بلد إلى بلد. قد يكون المطلوب في هذا البلد الهدوء والسكون وعدم الدخول في مواجهة والصبر والتحمّل، وفي بلد آخر قد يكون المطلوب هو الوقوف والمواجهة والتحدّي. وليس معنى ذلك أنّ مَن هو مطلوب منه الهدوء والصبر هو جبان ولا يقوم بشيء، وأنّ من هو مطلوب منه المواجهة هو شجاع ومقاوم. فالمقاوم والشجاع والمتديّن والمجاهد الحقيقيّ هو الذي يؤدّي تكليفه الشرعي والإلهي. إنْ كان تكليفه الصبر، فالصابر المنتظر هو المجاهد المقاوم، وإن كان تكليفه القتال، فالمقاتل في ميادين القتال هو المجاهد والمقاوم. هذا هو الفهم الصحيح للمسألة.
* تكليفٌ يحمي الإسلام
إنّ تكليف الإمام الحسين عليه السلام -الذي كان أبيّ الضيم، ورافضاً للظلم وشجاعاً وعاشقاً للشهادة- في زمن يزيد بن معاوية كان الذهاب إلى المواجهة ولو أدّت إلى أن يُقتل هو ومَن معه وتُسبى نساؤه؛ ولذلك كلّ من ناقش الحسين عليه السلام وتحدّث إليه في حقيقة موقف أهل الكوفة، وأنّهم سيبدلون رأيهم... لم يكونوا قادرين على فهم واستيعاب موقفه، فكان عليه السلام يقول لهم: ننظر وتنظرون، ولم يجادلهم، وفي النهاية، بيّن الإمام عليه السلام أنّ ما يقوم به تكليف شرعيّ وإلهيّ. هذا تكليفي الذي يحمي الإسلام، ويصونه، ويدفع المخاطر عن الأمّة؛ ولذلك كان عليه السلام يعتبر أنّ ما قام به هو ما اختاره الله له، ما رضي الله له، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، وإذا اختار الله لنا هذا التكليف، الذي فيه امتحان شديد، وصبر شديد، ومواجهة قاسية جدّاً، وآلام وتضحيات، فإنّه يوفّينا أجور الصابرين. هذه هي المدرسة، وهذا هو الدرس الكبير، بأن نؤدّيَ تكليفنا في كلّ صغيرة وكبيرة.
وفي الختام، على كلٍّ منّا أن يبحث عن تكليفه الشرعيّ، وحسبه فوزاً في هذه الدنيا أن يخرج منها وقد أدّى تكليفه الإلهيّ الشرعيّ في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا هو الفوز العظيم، هذا هو النصر الذي ليس كمثله نصر.(5)
الهوامش:
1- شرح الأخبار، القاضي النعمان، ج2، ص533.
2- انظر: مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج الأصفهاني، ص45.
3- أمالي الطوسي، ص677.
4- مقاتل الطالبيين، (م.س)، ص44.
5-من محاضرة عاشورائية، ألقاها سماحته أول ليلة من شهر محرم الحرام 1439هـ الموافق 21/9/2017م.
المصدر:مجلة بقية الله