الشيخ حسين كوراني
قبل بدء الخلق كان محمّد صلّى الله عليه وآله سرّ الخلق، وكان الحسين سرَّ السر.وكان أبرز ما في البعثة النبوية الأعظم في المدى العمليّ: التخطيط لعاشوراء في كربلاء!من محطات هذا التخطيط النبوي بأمرٍ من الله تعالى:قبل ولادة الحسين تحدّث سيّد النبيّين عن عاشوراء. ويوم ولادة الحسين كنّاه بعبد الله الرضيع، وبكى، وقال: «ما لي وليزيد؟ عزيز عليَّ أبا عبد الله."
* وتوافدَ كبارُ سادات الملائكة، ومنهم جبريل وملك القَطْر، وأفواج الملائكة يزفّون التهاني بالولادة والشهادة! ويقدّمون لرسول الله صلّى الله عليه وآله، تربةً حمراء؛ هي تربة كربلاء.
* وفي موسم التبريك الإلهي وفَوْجٌ من الملائك يصعد، وفوجٌ يتبرّك، تمّ تثبيت الهدف الذي يتحقّق بعاشوراء رسول الله صلّى الله عليه وآله بالحسين، عندما «عاذ فُطرس بمهده» فالفطرة التي فطر الله الناس عليها هي التوحيد، أي التعقّل: «بكَ أُثيب وبك أُعاقِب» وهي مهدّدة بالاستلاب لولا دمُ الحسين.
*"ابناي هذان إمامان، قاما، أو قعدا" تظهيرٌ لحقيقة عاشوراء. تحفُّزٌ وإعداد، ثم القيام. وذكر القيام أولاً يشير إلى الهدف. ثم إنّ القيام – بعدُ - يُنسب إلى الحسنَين، وقد شارك الحسين إمام زمانه الحسنَ الإعداد في مرحلته.
وكما استدعى التخطيط المحمّديّ لعاشوراء: تعيين القيادة، وتحديد المهمّة: «حفظ إمكانيّة سلامة الفطرة» و«حفظ الذّكر»، فقد استدعى أن يكون حديث عاشوراء حاضراً دائماً في البلاغ النبويّ كما تُجمع عليه الأمّة: ثناءً على الحسين، من خصائصه: «حسينٌ منّي وأنا من حسين». وحثّاً للصحابة عموماً ولأفراد محدّدين منهم على نصرة الحسين، وبكاءً على الحسين، وإبكاءً، ونشيجاً، ونحيباً، في اللقاءت الخاصة، والمجالس العامة، وعلى المنبر!
ما أكثر التفاصيل الكربلائية التي عني بها رسول الله صلّى الله عليه وآله. ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ النجم:3.
تفاصيل لكنّها مفصلية، كحديث تكنية الحسين بأبي عبد الله، أو حديث "قاطع السدرة".
* واستدعى اكتمال التخطيط المحمّديّ - بأمر الله تعالى - لعاشوراء، استدرار دمعة الأجيال على الحسين، فهو قتيل العبرة. ثار الله. ولقتله في «قلوب المؤمنين حرارةٌ لن تبردَ أبداً». «مَن بَكى أو تَباكى عليه فلهُ الجنّة». الدمعة ثمرة مخاضٍ فكريّ وروحيّ، والتباكي – بصدق - سفرٌ في النفس والآفاق للوصول إلى التوحيد. ﴿..فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾ الروم:30.
* روى الشيعة والسنة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، أنّه قال لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام - واللفظ هنا للترمذيّ –"أنا سِلْمٌ لمَن سالمتُم، وحربٌ لمَن حاربتُم".
فهل ندرك أنّ هذا تأصيلٌ نبويّ إلهيّ لِكُفر مَن حارب أهل البيت، وخصوصاً في كربلاء؟
* ولأجل العِبرة والعَبرة، كان لا بدّ من الحثّ على المجالس ورسم إطارها باستثناء كلِّ جزع على الحسين عليه السلام من الجزع المذموم.
* جميع ما سلف تمّ بيانه المحمّدي في سياق انتظار «قائم آل محمّد الطالب بِدَم المقتول بكربلاء»، فإذا الدنيا كلّها – بمحمّديّة الحسين - حسينيّة. "كلّ أرضٍ كربلاء وكلُّ يومٍ عاشوراء."
ولتكتمل منظومة ثقافة عاشوراء رسول الله صلّى الله عليه وآله، كان لا بدّ من العناية النبويّة بزيارة الحسين جيلاً بعد جيل. أوفد رسول الله صلّى الله عليه وآله، الصحابيّ الظاهرة جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء في أربعين الحسين ليزوره، ويعلّم الأجيال زيارة الأربعين، التي ظلّت الزيارة الوحيدة للحسين في الأربعين إلى عصر الإمام الصادق عليه السلام، فأضاف إليها الزيارة الثانية في الأربعين.
وقد تجلّت العناية النبويّة - وعناية الحقيقة المحمّدية كلّها نبويّة - بإطلاق الإمامين الباقر والصادق ورد المحمديّين الأول في عالم الزيارات: «زيارة عاشوراء".
* مَن قرأ زيارة عاشوراء، فقد دخل في ضمان الله تعالى في عنوانٍ عظيم هو: ثواب المقرَّبين.
* ومَن دعا بعدها بدعاء «صَفْوان» المعروف بدعاء عَلْقمة، دخل – بالإضافة إلى ثواب المقرّبين - في عنوانٍ عظيم هو «قضاءُ الحوائج بالغاً ما بلغ» في طلبها.
* ضمان الله تعالى، نقله جبرئيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحدَّث به الإمام الصادق عليه السلام، نقلاً عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، عن جبرئيل، عن الباري جلّ جلاله.
"إنِ استطعتَ أنْ تزورَه بها في كلّ يومٍ من دهرك فافعَل"، هذا هو العنوان العام الذي حدّده الإمام الباقر عليه السلام، لعلاقة المحمّدي بزيارة عاشوراء.
ولم يرِد مثل هذا الحثّ اليومي، أبدَ الدهر، على أيّ زيارة غير زيارة عاشوراء.
وبعد مدّة من صدور هذا التوجيه النبويّ، أصدر الإمام الصادق عليه السلام، توجيهاً نبويّاً آخر حول قراءة زيارة عاشوراء لقضاء الحوائج، لتوجيه الأجيال عبر القرون إلى حلّ مشاكلهم بالتوجّه إلى الله تعالى من باب سرِّ سرّ الخلق، الحسين عليه السلام، عبر زيارة عاشوراء.
الروايتان الأبرز لزيارة عاشوراء
الأولى: مرويّة عن الإمام الباقر عليه السلام، وليس فيها حديثٌ عن قضاء الحوائج، بل يتركّز الحديث فيها عن ثوابٍ يُبهر العقول، هو ثواب يُعطيه الله تعالى لأقرب الخلق إليه سبحانه.
الثانية: مرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام، وهي خاصّة بقضاء الحوائج.
والروايتان كما يلي:
الرواية الأولى: عن الإمام الباقر عليه السلام: قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة: «شرحُ زيارة أبي عبد الله عليه السلام في يوم عاشوراء من قرب أو بُعد: روى محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
مَن زار الحسين بن عليّ عليهما السلام في يوم عاشوراء من المُحرّم، حتى يظلّ عنده باكياً، لقيَ اللهَ عزّ وجلّ يومَ يلقاه بثواب ألفَي حِجَّة، وألفَي عُمرة، وألفَي غزوة، ثوابُ كلّ غَزْوَةٍ وحِجّةٍ وعُمرة، كَثوابِ مَن حجَّ واعتمرّ وغزا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومع الأئمّة الراشدين.
قال: قلت: جُعلت فداك، فما لمَن كان في بعيد البلاد وأقاصيها، ولم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم؟
قال: إذا كان كذلك برزَ إلى الصّحراء، أو صعدَ سطحاً مرتفعاً في داره، وأوْمَأ إليه بالسلام واجتَهدَ في الدّعاء على قاتلِيه، وصلّى من بعدُ ركعتَين، وليكُن ذلك في صدرِ النّهار قبلَ أنْ تزولّ الشمسُ، ثمّ لِيَندب الحسينَ عليه السلام ويَبكيه، ويَأمر مَن في دارِه ممّن لا يتّقيه بالبكاءِ عليه، ويُقيم في دارِه المصيبة بإظهارِ الجَزَع عليه، ولْيُعَزِّ بعضُهم بعضاً بِمصابِهم بالحسين عليه السلام، وأنا الضامنُ لهم إذا فعلوا ذلك - على الله تعالى - جميع ذلك.
قلت: جعلتُ فداك أنت الضّامن ذلك لهم والزعيم؟
قال: أنا الضّامن وأنا الزّعيم لمَن فعل ذلك.
قلت: فكيف يعزّي بعضُنا بعضاً؟
قال: تقولون: (أعظَمَ اللهُ أجورَنا بِمصابِنا بالحسين، وجَعلَنا وإيّاكم من الطّالِبين بثارِه مع وليَّه الإمام المهديّ من آلِ محمّدٍ عليهم السلام).
قال صالح بن عقبة وسيف بن عميرة: قال علقمة بن محمّد الحضرميّ: قلت لأبي جعفر عليه السلام: علِّمني دعاءً أدعو به ذلك اليوم إذا أنا زرتُه من قُربٍ، ودعاءً أدعو به إذا لم أزره من قُربٍ وأَوْمأتُ من بُعد البلاد ومن داري بالسلام إليه. قال: فقال لي:
يا علقمة، إذا أنتَ صلَّيتَ الركعتَين بعد أنْ تومي إليه بالسلام، فَقُل بعد الإيماءِ إليه من بعدِ التكبير هذا القول، فإنّك إذا قلتَ ذلكَ فقد دَعوتَ بما يدعو به زُوَارُه من الملائكة، وكَتبَ اللهُ لك مائةَ ألفِ ألف درجة، وكنتَ كمَن استُشهدَ مع الحسين عليه السلام، حتى تُشاركَهم في درجاتِهم ولا تُعرف إلّا في الشّهداء الذين استُشهِدوا معه، وكُتب لك ثواب زيارة كلِّ نبيٍّ وكلِّ رسولٍ، وزيارةِ كلّ مَن زار الحسينَ عليه السلام، منذُ يوم قُتل عليه السلام وعلى أهل بيتِه".
ثمّ أورد الشيخ الطوسي زيارة عاشوراء، التي عَلَّمها الإمام الباقر عليه السلام لعلقمة.
وبعد أن أورد الشيخ الطوسي الزيارة بتمامها، أورد ما يلي:
"قال علقمة: قال أبو جعفر عليه السلام: إنِ استطعتَ أنْ تَزورَه في كلِّ يومٍ بهذه الزيارة من دارِك فافْعَلْ، ولكَ ثوابُ جميع ذلك".
الرواية الثانية: عن الإمام الصادق عليه السلام
قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة: «.. وروى محمّد بن خالد الطيالسي عن سيف بن عميرة، قال: خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال، وعندنا جماعة من أصحابنا إلى الغريّ بعد ما خرج أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام، فسرنا من الحِيرة إلى المدينة، فلمّا فرغْنا من الزيارة صرف صفوان وجهَه إلى ناحية أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فقال لنا: تزورون الحسين عليه السلام من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام من هاهنا؛ أومأ إليه أبو عبد الله الصادق عليه السلام وأنا معه، قال: فدعا صفوان بالزيارة التي رواها علقمة بن محمّد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام في يوم عاشوراء، (أي الزيارة التي تقدّم أنّ الإمام الباقر علّمها لعلقمة)، ثمّ صلّى ركعتين عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام وودّع في دبرها أمير المؤمنين، وأومأ إلى الحسين بالسلام منصرفاً وجهُه نحوَه، وودّع، وكان في ما دعا في دُبُرِها : يا اللهُ يا اللهُ يا اللهُ يا مجيبَ دعوة المضطرّين (وأورد تمام الدعاء الذي يدعى به بعد الزيارة وقد اشتهر خطأ بدعاء علقمة، والصحيح: دعاء صفوان).
قال سيف بن عميرة: فسألت صفوان، فقلت له: إنّ علقمة بن محمّد الحضرمي، لم يأتنا بهذا عن أبي جعفر عليه السلام، إنّما أتانا بدعاء الزيارة، فقال صفوان: وَرَدْتُ مع سيّدي أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام إلى هذا المكان، ففَعلَ مثل الذي فعلناه في زيارتنا، ودعا بهذا الدّعاء عند الوداع بعد أنْ صلّى كما صلّينا، وودّع كما ودّعنا."
ضمان الله تعالى
ثمّ قال لي صفوان: قال لي أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام : تعاهدْ هذه الزيارة، وادعُ بهذا الدعاء، وزُرْ به، فإنّي ضامنٌ على الله تعالى لكلِّ مَن زارَ بهذه الزيارةِ ودعا بهذا الدّعاء مِن قُربٍ أو بُعدٍ، أنّ زيارتَه مقبولةٌ، وسعيَه مشكورٌ، وسلامَه واصلٌ غير محجوب، وحاجتَه مقضيّةٌ من الله بالغاً ما بلغتْ ولا يخيّبه. يا صفوان وجدتُ هذه الزيارة مضمونةً بهذا الضمان عن أبي، وأبي عن أبيه عليّ بن الحسين عليهم السلام، مضموناً بهذا الضمان، والحسين عن أخيه الحسن مضموناً بهذا الضمان، والحسن عن أبيه أمير المؤمنين مضموناً بهذا الضمان، وأمير المؤمنين عن رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مضموناً بهذا الضمان، ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن جبرئيل عليه السلام مضموناً بهذا الضمان، وجبرئيل عن الله عزّ وجلّ مضموناً بهذا الضمان، قد آلى اللهُ على نفسِه عزّ وجلّ، أنّ مَن زار الحسين عليه السلام بهذه الزيارة من قُربٍ أو بُعدٍ ودعا بهذا الدعاء، قبلتُ منه زيارتَه، وشفَّعته في مسألته بالغاً ما بلغ (بلغتْ)، وأعطيتُه سؤلَه، ثمّ لا ينقلب عنّي خائباً، وأَقلبه مسروراً قريراً عينُه بقضاء حاجته، والفوزِ بالجنّة، والعتقِ من النّار، وشفَّعته في كلِّ مَن شفَع - خلا ناصبٍ لنا أهلَ البيت- آلى اللهُ تعالى بذلك على نفسه، وأشهَدَنا بما شهدَت به ملائكةُ ملكوته على ذلك. ثمّ قال جبرئيل: يا رسول الله أرسلَني إليك سروراً وبشرىً لك، وسروراً وبشرى لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين وإلى الأئمّة من وُلدِك إلى يوم القيامة، فدامَ يا محمّد سرورُك وسرورُ عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة وشيعتِكم إلى يوم البعث.
ثمّ قال صفوان: قال لي أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: يا صفوان، إذا حدَث لكَ إلى الله حاجةً فزُر بهذه الزيارة من حيثُ كنتَ، وادعُ بهذا الدعاء وسَلْ ربَّك حاجتك تأتِك من الله، واللهُ غيرُ مخلفٍ وعدَه ورسولُه صلّى الله عليه وآله وسلّم بمنِّه والحمد لله.
زيارة عاشوراء – إذاً - هي من كلام الله تعالى؛ فهي في صفّ الأحاديث القدسيّة كما يصرّح بعض العلماء، وقد تمّ التخطيط لها في فترة نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وآله، إلّا أنّ إعلانها كان على مرحلتين: الأولى: على يد الإمام الباقر عليه السلام. والثانية: بإضافة عنوان «قضاء الحوائج» كانت على يد الإمام الصادق عليه السلام، فلا عجبَ أن تكون هذه الزيارة الإلهية، الزيارة الأشهر عبر الأجيال، وأن تكون وِرد المحمّديين عبر القرون.
المصدر:مجلة شعائر