ناهض البلداوي
بعد جمود في العلاقات بين المسؤولين الليبيين ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الإمام موسى الصدر وبعد مداخلة قام بها الرئيس الجزائري المغفور له هواري بومدين تلقى سماحته دعوة رسمية لزيارة الجماهيرية الليبية سلمت إليه من قبل القائم بأعمال السفارة الليبية في لبنان بتاريخ الثالث والعشرين من شهر آب سنة 1978م فتوجه إلى طرابلس الغرب بعد يومين مصطحبًا الشيخ محمد يعقوب والسيد عباس بدر الدين.
بعد وصوله إلى ليبيا بدا متضايقًا فلم يُجْرِ أي اتصال هاتفي بأحد في لبنان، أو بأحد أفراد عائلته الموجودين في فرنسا حيث كانت زوجته تعالج وخلافًا لما اعتاده في أسفاره.
بتاريخ الثامن والعشرين من آب المذكور قابله القائم بأعمال السفارة اللبنانية في ليبيا فأكد له أن بقاءه في الجماهيرية متوقف على تحديد مواعيد لبعض المقابلات الرسمية فإن تمت عاجلًا سافر على الأثر وإن أبلغ تعذر حصولها غادر أيضًا.
مساء 29/8/1978م حصل لقاء فكري حول «الكتاب الأخضر» بترتيب من السيد طلال سلمان بين الرئيس القذافي ووفد لبناني مؤلف من السادة: منح الصلح، محمد قباني، بلال الحسن، أسعد المقدم وبشارة مرهج فاستمر إلى ما بعد منتصف الليل علمًا أن هؤلاء وصلوا طرابلس الغرب يوم 26/8/1978م أي بعد وصول الإمام ورفيقيه إليها وقد زاروا سماحته بجناحه في فندق الشاطئ بعد انتهاء اللقاء صبيحة الثلاثين من آب سنة 1978م فأخبرهم انه كان على موعد تلك الليلة مع الرئيس الليبي وتلقى حوالي منتصف الليل مكالمة هاتفية تنبئ بتأجيله مما حمل السيد المقدم على الاعتقاد أن سبب التأجيل هو امتداد اجتماعهم مع الرئيس القذافي حتى ساعات الصباح الأولى.
يوم 31/8/1978م علم السيد المقدم من عباس بدر الدين أن مكالمة هاتفية جرت بين المسؤولين الليبيين والإمام وأن موعدًا للاجتماع بالرئيس الليبي حدد له وقد شاهده عند الساعة الواحدة والربع من بعد ظهر ذلك اليوم برفقة عباس المذكور يهمان بمغادرة الفندق مما جعله يستنتج انهما ذاهبان إلى الاجتماع المشار إليه.
بعد التاريخ والوقت المنوه عنهما انقطعت أخبار الإمام ورفيقيه انقطاعًا كليًا وما تزال، وقبيل العاشر من أيلول سنة 1978م أخذ القلق يساور أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سيما وقد علموا أن الإمام لم يتصل بعائلته ولم يصل فرنسا بعد، فأبلغوا قلقهم للمسؤولين اللبنانيين على أعلى مستوياتهم وأعربوا عن خشيتهم من أن يكون سماحته والوفد المرافق قد تعرضواللسوء.
بتاريخ الرابع عشر من أيلول سنة 1978م قابل الأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء اللبناني الدكتور عمر مسيكة، الرائد عبد السلام جلود فأكد له المعلومات الرسمية المعطاة من السلطات الليبية ومفادها أن الإمام ورفيقيه غادروا ليبيا إلى إيطاليا على متن طائرة «أليطاليا» الرحلة 881 عند الساعة الثامنة والنصف من مساء 31/8/1978م، مضيفًا أنهم سافروا فجأة وموضحًا أن تحقيقًا بوشر مع سائقي السيارات التي كانت موضوعة بتصرف الإمام بشأن مرافقتهم له إلى المطار دون إبلاغ المراسم.
وضعت النيابة العامة للجمهورية في روما يدها على التحقيق على أثر ما نشرته وكالات الأنباء من أخبار وعلى أثر ما طلبه القائم بأعمال السفارة اللبنانية في روما من السلطات الإيطالية من إيضاحات، فتبين لها أنه بتاريخ 1/9/1978م ظهرًا حضر شخصان كان أحدهما يرتدي لباسًا دينيًا إلى فندق «هوليداي إن» عرفا عن نفسيهما أنهما الإمام الصدر والشيخ محمد يعقوب وطلبا إشغال غرفتين في ذلك الفندق فأعطيا الغرفتين 701 و 702 ودفعا الحساب سلفًا عن مدة أسبوع ثم بعد دخولهما الغرفتين لمدة عشر دقائق خرجا بلباسين مدنيين ولم يعودا، وعندما فتحت الغرفتان بنهاية المدة المدفوع أجرها ،عثر على جوازي سفر الإمام والشيخ محمد يعقوب وعلى أربع حقائب بينها واحدة لعباس بدر الدين وكانت محتويات الحقائب من أغراض ووثائق وثياب قد خلطت فيما بينها خلطًا فوضويًا واحتوت أغراضًا غير عائدة أصلًا للإمام ورفيقيه لا سيما المحفظة البنية الظاهرة عليها صورة العربة والحصان، وتبين أن استمارتي الفندق كتبهما الشخص الذي عرف عن نفسه أنه محمد يعقوب بأحرف كبيرة وخط بدائي وأغلاط كثيرة.
وتبين أن رحلة طائرة «اليطاليا» رقم 881 من طرابلس الغرب إلى روما مساء 31 آب سنة 1978م تأخرت ساعة كاملة وبعد وصول الطائرة إلى مطار فيوميتشينو عند الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثانية عشرة ليلًا تقدم من مكتب الأمن العام رجل عرّف عن نفسه أنه عباس بدر الدين مصرّحًا أنه ينوي الاقامة في فندق «ساتلايت» طالبًا تأشيرة دخول لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة لزيارة المدينة على أن يغادرها متابعًا سفره إلى مالطا في اليوم التالي على متن طائرة «أليطاليا» الرحلة 490.
ولدى التحقيق مع نيكولوزي ليونارد وكولانجيلو بياترو وزانبيغو مارغريتا وسيدروني البرتو ودورانته جيوزييه وهوبر زيغفريد والعاملين في فندق «هوليداي إن» نفوا أن يكون للشخصين اللذين دخلا الفندق وانصرفا بسرعة المواصفات الجسدية وملامح الوجه العائدة للإمام والشيخ محمد يعقوب. ونفى أفراد طاقم طائرة «أليطاليا»: استولفي اورلندو وبيجي بيارو وكوسياني ليسيا وكونتينو سرجيو وباغنيلو روبير ريشار والراكبان فالنتي السندرو ودونسلمان جوزفينوموظفا الأمن العام في مطار فيوميتشينو كاردوني اندريا وفيدال الفريد واللذان دققا جوازات سفر القادمين على الطائرة المحكي عنها، أن يكون شخص له مواصفات الإمام الصدر الذي عرضت صورته عليهم قد كان على متن الطائرة في تلك الرحلة، كما نفى العريف دوناتو زوطو أن تكون للشخص الذي طلب تأشيرة الدخول المؤقت ملامح عباس بدر الدين الذي عرضت عليه صورته.
بتاريخ 7/6/1979م صدر عن قاضي التحقيق في روما قرارًا يقضي بحفظ القضية لعدم وقوع أية جريمة في إيطاليا بحق الإمام الصدر ورفيقيه.
وبتاريخ 15/2/1980م طلب المكتب الشعبي للجماهيرية الليبية في روما من القضاء الإيطالي إجراء تحقيق إضافي حول اختفاء الإمام ورفيقيه رابطًا بمذكرته نسخة عن تحقيق بدأته الشرطة الليبية في 3/7/1979م تمحور حول إفادات أدلى بها شهود ليبيون وشاهد موريتاني انطوت على أن الإمام الصدر ورفيقيه غادروا الأراضي الليبية مساء 31 آب سنة 1978م على متن طائرة «أليطاليا» الرحلة رقم 881.
وبعد تحقيقات مطولة وتمحيص دقيق وشامل للأدلة أصدر قاضي التحقيق بتاريخ 28/1/1982م قرارًا بحفظ القضية مجددًا لكون الإمام ورفيقيه لم يدخلوا الأراضي الإيطالية مساء 31/8/1978م ولكون أشخاص آخرين بقوا مجهولين انتحلوا شخصيات هؤلاء الثلاثة وزيفوا آثارًا لدخولهم وإقامتهم على الأراضي الإيطالية.
الشواهد على عدم مغادرة السيد ليبيا
أن الإمام الصدر ورفيقيه شوهدوا على الأراضي الليبية في الفترة الممتدة بين الخامس والعشرين من آب سنة 1978م والساعة الواحدة والربع من بعد ظهر الواحد والثلاثين منه.
وحيث أن السلطات الليبية أصرت على أنهم غادروا ليبيا إلى إيطاليا على متن طائرة «أليطاليا» الرحلة رقم 881 مساء 31/8/1978م.
وحيث أن القضاء الإيطالي نفى بعد تحقيقات مطولة ودقيقة أساسية وإضافية أن يكون سماحته ورفيقاه قد دخلوا الأراضي الإيطالية، مشددا على أن أشخاصًا آخرين انتحلوا شخصيات الثلاثة المذكورين وزيفوا آثار دخولهم وإقامتهم على الأراضي الإيطالية.
القذافي: الإمام الصدر اختفى في ليبيا
في خطابه السنوي الذي ألقاه بمدينة سبها في 31/8/2002م، وكنتيجة للمتابعات القضائيةولضغوط لبنانية وإيرانية، أقرّ القذافي، بخلاف كل تصريحاته السابقة، بأن الإمام الصدر اختفى في ليبيا مما حدا بمنظمة العفو الدولية إلى تضمين إقراره هذا في تقريرها السنوي للعام 2003م القسم الخاص بليبيا حيث جاء فيه «إن القذافي اعترف رسميًا... بأن الإمام الصدر اختفى في ليبيا أثناء زيارة سنة 1978
فقد صرح القذافي علنا بهذا التصريح (موسى الصدر هذا جاء الى ليبيا لا أعرف أي عام ... يعني بدعوة منه، نحن وجهنا له الدعوة مثل كل الشخصيات التي تحضر الاحتفال في عيد الثورة ...واختفى هو ومعه اثنان صحفيان تقريباً، اختفى في ليبيا لا نعرف كيف ... موسى الصدر ... يعني من الزعماء المرموقين في لبنان، ومن المقاومين للاحتلال، هو الذي أسس ألوية المقاومة اللبنانية وصاحبي ومعرفة تقابلت معه كم مرة ودعوته لحضور عيد الثورة واختفى. الحقيقة هذه مأساة، مأساة فعلاً أولاً فقدنا، أحد رموز المقاومة الوطنية اللبنانية وأحد رجالات الأمة الاسلامية، وخسارة يعني كان شخصاً عنده فاعلية ونشاط فقدناه ... يعني واحد توجه له الدعوة ويأتي ويختفي ... كيف اختفى موسى الصدر؟ هذه قضية أقلقتنا، أقلقت ضمائرنا، يجب أن نتوصل فيها إلى حل، إلى تخمين، إلى نتائج، كيف تُشوّه ليبيا التي تدعوه؟ خاصة أنه ليس هناك أي سوء بينه وبين ليبيا لأنه من أنصار ليبيا، هو من الناس الذين نحن نؤيدهم )
المصدر:مركز نور للدراسات