الإمام السيد علي الخامنئي
إنّ ما يمكن أن يفهمه مَنْ يُطالع التاريخ من أمثالنا من حادثة الغدير هو ما يتضمّنه ذلك التنصيب الإلهي من مفهوم في مسألة كيفية إدارة شؤون البلاد وانتخاب الناس الصالحين لتولّي المسؤوليات الكبيرة.
طبعاً إنّ أصحاب النظرة العرفانيّة العالية ومن ارتبطت قلوبهم بمنابع النور والمعرفة قد يدركون أموراً أخرى من تلك الواقعة لا يستطيع غيرهم من الناس إدراكها. أمّا الذي نفهمه نحن من هذه الحادثة فهو أنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعيينه أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ بأمر من اللّه ـ لمنصب الولاية قد أظهر هذه الحقيقة الإسلامية الناصعة وهي: إنّ المسؤولية الجسيمة لإدارة المجتمع الإسلامي هي قضية لا يمكن معها غضّ النظر عن شيء من المعايير والقيم الإسلامية بشكل كامل ودقيق. فهل كان هناك إنسان أعظم من أمير المؤمنين (عليه السلام) جُمعت فيه كلّ القيم الإسلامية السامية.
فالإيمان، والإخلاص، والتضحية، والإيثار، والتقوى، والجهاد، والسبق للإسلام، والانصراف عن كلّ ما هو لغير اللّه، والعزوف عن الزخارف المادّية، وتحقير الدنيا، والعلم، والمعرفة، والقمَّة في الإنسانية بجميع أبعادها، كانت جميعها من القيم الكريمة التي كان يتحلّى بها مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام). وهذا الأمر لا تقول به الشيعة فقط، بل لقد أجمع المسلمون والمؤرِّخون والمحدِّثون الذين كتبوا عن حياته بصدق وإنصاف، انّه (عليه السلام) كان يتحلّى بجميع تلك الخصال، بل أكثر من ذلك. ولهذا قام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم الغدير ـ وأمام أنظار الذين كانوا يعرفون تلك الخصال في أمير المؤمنين ـ بتعيينه لمنصب الولاية. وهذا يعني إعطاء الأهمّية القُصوى للقيم والمعايير الإسلامية، وهو أمر يجب أن يبقى موضع اهتمام المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي حتى ظهور الإمام الحجّة (عجل الله فرجه الشريف).
التأكيد على يوم الغدير
عبّرت آثارنا الإسلامية عن يوم الغدير بتعابير من قبيل ((عيد الله الأكبر))، و((يوم العهد))، و((يوم الميثاق المأخوذ)) وهو ما يعكس وجود اهتمام وتأكيد خاص لهذا اليوم الشريف، وأهم ما يميّز هذه التعابير هو موضوع الولاية.
إن الضمانة الوحيدة لتطبيق أحكام الإسلام هو وجود الحكومة الإسلامية المؤمنة بسيادة أحكام القرآن، وإلاّ فحتّى لو كان لسائر أفراد المجتمع إيمان وعقيدة وعمل فردي، لكن زمام الأمور ـ سواء في مرحلة التشريع أم في مرحلة التنفيذ ـ بيد الآخرين، فسيبقى تطبيق أحكام الإسلام رهيناً بمدى إنصاف الممسكين بزمام الأمور؛ فإن كانوا مجانبين للإنصاف يحلّ بالمسلمين هناك كالذي تشاهدونه اليوم في كوسوفو، وشاهدتموه بالأمس في البوسنة والهرسك، وما كان يجري في بلدنا الإسلامي إيران. أمّا إذا كان لدى الحكام شيء من الإنصاف فهم يسمحون للمسلمين بمراعاة بعض أحكام الإسلام في إطار دائرة بيوتهم، أو على أكثر الاحتمالات ضمن دائرة الحارة والمحلّة، ولكن بعيداً عن التطبيق الكامل لأحكام الإسلام.
أهمية الحكومة في واقعة الغدير
كانت قضية الحكومة من أهم القضايا التي جاء بها جميع الانبياء، بدون الالتفات إلى مقولات البعض ممن يحلو لهم صياغة آراء وهمية مرفوضة في قوالب لفظية معسولة؛ اذ يزعم البعض أن الدين إذا آل إليه زمام الحكومة يفقد قدسيّته. ولكن ما معنى القدسية؟ هل معناها أن يلصق المرء بذاته ميزة أو اسماً أو شيئاً اعتبارياً عارياً عن الحقيقة؟ هل هذا هو معنى القدسية؟ القدسية الحقيقية هي ان تكون هناك حقيقة متسالم عليها لدى الناس ولها أثر حسن على حياتهم وعلاقاتهم وعلى شؤون دنياهم وآخرتهم، ولها دور في إصلاح الحياة؛ وذلك هو الدين، فإن كانت له مثل هذه المقدرة فهو أهل للقدسية. وإذا افترضنا ان زيداً وعمرواً وغيرهما تصدوا لزمام الحكومة في ظل ذلك الدين، ثم كيلت لهم التهم والإهانات والشتائم من قبل بعض الجهات، فلا ضير في ذلك. فما أهمية أن يكون آلاف الآلاف من مثلي وأمثالي ضحية لبقاء الدين؟ إن الدين يجب أن يطبّق؛ وهذا ما أعلن يوم الغدير صراحة كحقيقة قانونية في الإسلام. لقد كانت السيادة للإسلام منذ بداية هجرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أن الكثير من أناس ذلك العصر عقدوا الآمال على أن هذا الرسول الذي جاء بدين الإسلام وألّف به بين القلوب، إذا ما خرج من بين الناس فسينتهي كل شئ، ولكن تعيين الولي وتنصيب الحاكم القادر على النهوض بتلك المهمّة قوّض تلك الآمال في مجال التشريع. وأساس القضية هو أن يكون هناك قانون، ولهذا قال تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم). وبعد أن عُيّن الولي وحٌسم أمر الحكومة وإدارة شؤون البلاد، فلا خوف من العدو الخارجي، بل يجب أن تخافوني أنا (واخشون).
أهمية الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)
تتصف الحكومة البشرية بالأنانية والسعي لإبراز مظاهر الإقتدار والقوّة، إضافة إلى العجب والغطرسة وفقدان الغيرة، في حين تتصف الحكومة الإلهية بما ينافي ذلك أساساً، وأفضل تجسيد لمواصفات الحكومة الإلهية هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ اتصف حتّى في عهد حكومته بتواضع بلا ضعف وقوّة بلا غرور؛ ففي الوقت الذي كان يجابه فيه المجرم، والمنحرف، ومَنْ يجب إجراء الحدّ الإلهي عليه، والعدو ـ في ساحة الحرب ـ بكل حزم، لا نجد في شخصه شيئاً من الانانية التي تطغى على وجود جميع الكائنات وتُوقع الكثير منها في مهاوي الهلكة والضياع، وكل ما يسم شخص عليّ (عليه السلام) هو الذوبان في الإرادة الإلهية، وطاعة الله وعبادته.
المصدر:دار الولاية للثقافة و الإعلام