الشيخ محمد صنقور
عرض الشبهة:
يقول الله سبحانه و تعالى في كتابه العزيز:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} و{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ..}انطلاقاً من هذا المبدأ هل الجنَّة موجودة قبل يوم القيامة؟ فإذا كانت موجودة هل سيلحقها الفناء كما سيحدث لكل شيء؟
وإنْ كانت غير موجودة فكيف يتمُّ التوفيق بين عدم وجودها وما ورد في معراج الرسول (ص)؟
الجواب:
أما انَّ الجنة وكذلك النار هل هما مخلوقتان فعلاً أو انَّهما سيُخلقان بعد قيام الساعة فالذي عليه مذهب الاماميَّة إلا مَن شذَّ منهم هو انَّهما مخلوقتان فعلاً، وكذلك هو مذهب جمهور السنَّة من الأشاعرة وغيرهم وعلى خلاف ذلك ذهب المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية كما أفاد ذلك الشيخ المفيد (رحمه الله).
واستدلَّ الإماميَّةُ على انَّ الجنَّة والنار مخلوقتان فعلاً بظاهر عددٍ من الآيات وبظاهر وصريح الكثير من الروايات الواردة عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع) والتي وصفها عددٌ من الأعلام بالمتواترة.
أما الآيات التي استُدلَّ بها على ذلك:
فمنها: الآيات التي أفادت انَّ الله تعالى قد أعدَّ الجنة للمتقين، وأعدَّ النار للكافرين كقوله تعالى: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وكقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وتقريب الاستدلال: انَّ الإعداد في مثل هذه الآيات قد تمَّت صياغته بالفعل الماضي، وذلك ظاهرٌ في انَّ الإعداد للجنَّة والنار قد وقع وفُرغ من انجازه، عيناً كما يُقال: انَّ الأمير قد أعدَّ للحرب عدَّتها، فإنَّ معنى ذلك انَّه قد فرغ من شراء الأسلحة والعتاد أو انَّه قد فرغ من تصنيعها وتهيئتها بحيث أصبحت جاهزة للاستعمال، وكذلك حينما يُقال أعدَّ زيدٌ داراً لزواجه، فإنَّ ظاهر ذلك هو انَّه قد اتَّخذ لزواجه داراً وانَّه قد جهَّزها وهيئها لذلك، فلو أخبر أهل المرأة التي تقدَّم لخطبتها أنَّه قد أعدَّ داراً لزواجه، ثم تبين لهم انَّه ليس له دار يسكنها أساساً، فاعتذاره لهم بعد ذلك - أنَّه قصد من قوله: أعدَّ داراً لزواجه هو انَّه سيفعل ذلك فيما بعد - لا يكون هذا الاعتذار مقبولاً لأهل المرأة، كما لا يكون مقبولاً لدى العرف وأهل المحاورة واللسان، ولصح الاحتجاج عليه بأنَّه كان عليك انْ تُعبِّر بصيغة الفعل المضارع لو كنت قاصداً الاستقبال لا انْ تُعبِّر بصيغة الفعل الماضي ثم تدعي إرادة الإعداد للدار فيما يُستقبل من الزمان.
فصياغة الفعل بصيغة الماضي ظاهرٌ لدى العرف انَّ الفعل قد وقع وتحقَّق فيما مضى من الزمان، ولهذا كان المُستظهَر عرفاً من قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ان كلا من الجنة والنار قد وقع الاعداد والخلق لهما فيما مضى من الزمان لا انَّه سوف يتم الاعداد لهما فيما يُستقبل من الزمان.
و غيرها من الآيات الأخرى.
وأما الروايات التي استُدلَّ بها على انَّ الجنَّة والنار مخلوقتان فعلاً فكثيرة:
منها: رواياتُ المعراج ونذكرُ منها ثلاث:
الأولى: ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره بسندٍ معتبر قال: حدثني أبي ابراهيم بن هاشم عن حمَّاد عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): "لما اُسرى بي إلى السماء دخلتُ الجنة فرأيتُ قصراً من ياقوتةٍ حمراء يُرى داخلها من خارجها، وخارجها من داخلها من ضيائها، وفيها بيتان من در وزبرجد، فقلتُ: يا جبرئيل لمَن هذا القصر فقال: هذا لمَن أطاب الكلام، وأدام الصيام، واطعم الطعام، وتهجد بالليل والناس نيام.."
الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسندٍ معتبر عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر (ع)، قال: "إن رسول الله (ص) حيث أسري به إلى السماء، لم يمر بخلقٍ من خلق الله إلا رأى منه ما يُحبُّ من البُشر واللطف والسرور به حتى مرَّ بخلقٍ من خلق الله، فلم يلتفت إليه، ولم يقل له شيئاً، فوجده قاطباً عابساً، فقال: يا جبرئيل، ما مررتُ بخلقٍ من خلق الله إلا رأيتُ البُشر واللطف والسرور منه إلا هذا، فمَن هذا؟ قال: هذا مالكٌ خازنُ النار، وهكذا خلقه ربُّه. قال: فإنِّي أُحب أنْ تطلب إليه أن يُريني النار. فقال له جبرئيل: إنَّ هذا محمدٌ رسولُ الله، وقد سألني أنْ أطلب إليك أن تُريه النار. قال: فأخرج له عنقاً منها فرآها..".
ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في العيون والتوحيد والأمالي قال: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن عبد السلام بن صالح الهروي عن الإمام الرضا (ع): ".... قال: قلتُ له: يا ابن رسول الله فأخبرني عن الجنَّة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم وانَّ رسول الله (ص) قد دخل الجنة ورأي النار لما عُرج به إلى السماء قال: فقلتُ له: انَّ قوماً يقولون: انَّهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين فقال (ع): لا هم منا ولا نحن منهم، مَن أنكر خلق الجنَّة والنار كذَّب النبيَّ (ص) وكذَّبنا، وليس من ولايتنا على شيء.. قال (ع): وقال النبي (ص): لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل (ع) فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلتُه، فتحول ذلك نطفةً في صلبي فلما هبطتُ الأرضَ واقعتُ خديجة فحملت بفاطمة ﴿عَلاَّمُ﴾ ففاطمة حوراء انسية فكلَّما اشتقتُ إلى رائحة الجنَّة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة (ع)"
والرواية معتبرة سنداً وصريحةٌ في انَّ الجنة والنار مخلوقتان فعلاً وليستا مقدَّرتين كما ادَّعت ذلك المعتزلة.
والرواية معتبرة من حيث السند، وقد اشتملت على انَّ الاعتقاد بخلق الجنَّة والنار هو من الاعتقادات الحقَّة شأنُه شأنُ الاعتقاد بمثل الحوض والشفاعة والصراط، ومن الواضح انَّ المراد من الاقرار بخلق الجنة والنار هو خلقهما فعلاً، وذلك في مقابل من ادعى -كالمعتزلة- انهما مقدَّرتين فعلاً وليستا مخلوقتين.
ويؤيِّد ذلك ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب صفات الشيعة بسنده عن الصادق جعفر بن محمد (ع) قال: "ليس من شيعتنا من أنكر أربعة أشياء المعراج، والمسألة في القبر وخلق الجنَّة والنار والشفاعة"، فإنَّ المنكر لوجود الجنَّة والنار بعد قيام الساعة ليس خارجاً من التشيُّع فحسب بل هو خارجٌ عن الإسلام، فيتعيَّن انَّ المراد من قوله (ع): "من أنكر... خلق الجنة والنار" هو الإنكار لخلقهما فعلاً.
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه انَّ الأدلة المتظافرة من الآيات والروايات المعتبرة مضافاً إلى دعاوى الإجماع قاضية بأنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقتان فعلاً، وليس كما توهَّم بعضُهم انًّهما ستُخلقان حين قيام الساعة، وأما قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ وما أفاد مفاد هذا المعنى من الآيات فهو غير منافٍ لما ثبت من انَّ الجنَّة والنار مخلوقتان فعلاً، فإنَّ مثل هذه الآيات ليست ظاهرة في انَّ الفناء والهلاك يعرضان كلَّ موجود وإنْ لم يكن من موجودات هذه النشأة وهذا العالم، فليس في هذه الآيات ظهورٌ في انَّ الفناء والهلاك يعرضان مثل العرش واللوح المحفوظ وسدرة المنتهى والتي أخبر القرآن عن وجودها ولكن في غير هذا العالم وفي غير هذه النشأة، ولعلَّ ما يُؤيد عدم عروض الفناء على مثل هذه الوجودات قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾، فلأنَّ الجنة والنار ليستا من وجودات هذه النشأة بل هي من وجودات النشأة الأخرى شأنُها في ذلك شأنُ العرش وسدرة المنتهى لذلك فالآيات التي أفادت انَّ ما في هذه النشأة فانٍ وهالك ليست ظاهرة في الشمول لمثل هذه الوجودات، لذلك لا تصلح هذه الآيات لنفي ما دلَّت عليه الآيات والروايات المعتبرة من انَّ الجنَّة والنار مخلوقتان فعلاً.
والذي يُؤكد انَّ الجنَّة والنار داخلتان في عموم قوله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ انَّ الكثير من الآيات صنَّفت الجنَّة في ضمن الوجودات التي هي عند الله جلَّ وعلا كما في قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ وقوله تعالى: ﴿فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ فالجنَّة ليست شيئاً من متاع هذه النشأة الدنيا بل هي ممَّا عند الله تعالى، وما عند الله خيرٌ وأبقى كما قال تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. فإذا كانت الجنَّة هي ممَّا عند الله تعالى، وهي من وجودات النشأة الأخرى المعبَّر عنها في بعض الآيات بالدار الآخرة فهي إذن ممَّا قدَّر الله تعالى لها البقاء الأبدي كما هو الشأن في كلَّ شيء من وجودات الدار الآخرة كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
على انَّ الفناء الذي يعرض ما في هذه النشأة إنَّما هو لغاية الانتقال منها إلى النشأة الأخرى، فما كان مبدأ وجوده هو النشأة الأخرى فإنَّه لا يكون معرَضاً للتحوُّل والفناء، فموتُ الإنسان وفناؤه مثلاً إنَّما هو لغاية انتقاله من هذا العالم إلى العالم الآخر كما صرَّحت بذلك العديد من الآيات كقوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ فالغايةُ والمنتهى هي صيرورة وجودات هذه النشأة إلى ما عند الله تعالى، فما يكون عنده تعالى في العالم الآخر ابتداءً يكون واجداً لمنتهى الغاية من وجوده، فلا يكون معرَضاً للتحوُّل والانتقال.
ومن ذلك يتأكد ان قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ غير شاملٍ لموجودات النشأة الأخرى بقرينة ذيل الآية وهي قوله تعالى: ﴿لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فإنَّ الهلاك سيعرض ما يُتصوَّر في حقِّه الانتقال والرجوع إلى الله تعالى، وأما يكون عند الله ابتداءً في النشأة الأخرى فلا يُتصور في حقِّه الرجوع. وأما قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ فهي أوضح في عدم الشمول لما هو موجودٌ في النشأة الأخرى، لأنَّ الآية متصدِّية للإخبار عن فناء كلِّ مَن على هذه الأرض أو كلِّ مَن هو موجودٌ في هذه النشأة، فليس لها تصدِّ للإخبار عن مصير الوجودات المخلوقة ابتداءً في النشأة الأُخرى كالجنَّة والنار والعرش وسدرة المنتهى.
البحث بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التفصيل والتعميق ولكنْ لا يسعنا ذلك فعلاً، وفيما ذكرناه غنىً وكفاية.
المصدر:مركز الهدى للدراسات الإسلامية