من سيرة النبي إبراهيم(ع)...خطة إبراهيم الرائعة

الخميس 16 أغسطس 2018 - 08:54 بتوقيت غرينتش
من سيرة النبي إبراهيم(ع)...خطة إبراهيم الرائعة

 ومن هنا يتضح أن ما قاله البعض من أن هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرا في نفسه، أو بينها لبعض بصورة خاصة لا داعي له...

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

يتحدث القرآن عن قصة تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي اتخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم.

نلاحظ هنا أن القرآن الكريم ربط بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾(الصافات/83). أي إن إبراهيم كان سائرا على خطى نوح(ع) في التوحيد والتقوى والإخلاص، حيث أن الأنبياء يبلغون لفكر واحد، وهم أساتذة جامعة واحدة، وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها. كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح، رغم أن الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض: إن الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ 2600 سنة)، إذ أن العلاقات الإيمانيةكما هو معروف لا يؤثر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير.

 ومن أجل أن يثبت إبراهيم جدية هذه المسألة، وأنه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنه يتقبل كل ما يترتب على ذلك بكل وجوده، أضاف: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾.وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأني سأستغل في النهاية فرصة مناسبة وأحطم هذه الأصنام!

 إلا أن عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربما كانت قد بلغت حدا لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجد، ولم يظهروا رد فعل تجاهه، وربما ظنوا بأن أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدسات تماما، بأية جرأة؟ وبأية قوة؟!

 ومن هنا يتضح أن ما قاله البعض من أن هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرا في نفسه، أو بينها لبعض بصورة خاصة لا داعي له، خاصة وأنه مخالف تماما لظاهر القرآن إضافة إلى أننا سنقرأ بعد أن عباد الأصنام قد تذكروا قول إبراهيم، وقالوا: سمعنا فتى كان يتحدث عن مؤامرة ضد الأصنام.

 على كل حال، فإن إبراهيم نفذ خطته في يوم كان معبد الأوثان خاليا من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضرا.

 إن عبدة الأوثان كانوا قد اتخذوا يوما خاصا من كل سنة عيدا لأصنامهم، وكانوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم، ثم يخرجون من المدينة أفواجا، وكانوا يرجعون في آخر النهار، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في إعتقادهم.

 وبذلك خلت المدينة من سكانها، فاستغل إبراهيم (ع) هذه الفرصة الجيدة لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن راغبا في إضاعتها. وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ / فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾.  وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

وهنا يطرح سؤالان:

الأول: لماذا نظر إبراهيم (ع) في النجوم، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني: هل إنه كان مريضا حقا حينما قال: إنني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأول، مع أخذ إعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار، يتضح أنهم كانوا يستقرئون النجوم، وحتى أنهم كانوا يقولون بأن أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض، ولهذا السبب فإنهم يكنون لها الإحترام لكونها تمثل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب إستقرائهم للنجوم، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم (ع) بأنه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إني سقيم، فتركوه ظنا منهم أن نجمه يدل على سقمه.

أما بعض كبار المفسرين، فقد احتملوا أنه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه، لأنه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معينة، ولكن الإحتمال الأول يعد مناسبا أكثر، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أن نظره إلى السماء هو التفكر في أسرار الخلق، رغم أنهم كانوا يتصورون أن نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة النجوم توقع الحوادث القادمة.

أما بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعددة:

منها: أنه كان مريضا حقا، وحتى إن لم يكن مريضا فإنه لن يشارك في مراسم عيدهم، فمرضه كان عذرا جيدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنه استخدم التورية، كما أن استخدام التورية من قبل الأنبياء يعتبر عملا غير مناسب.

على كل حال ، فبعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾

ألا تأكلون؟

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (ع) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهز العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

 فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه له عبدتكم، إنه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع، مالكم لا تأكلون؟ ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾.

ثم أضاف، لم لا تتكلمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ﴾.

 وبهذا استهزء إبراهيم (ع) بكل معتقداتهم الخرافية، ومن دون أي شك فإنه كان يعرف أنها لا تأكل ولا تتحدث، وأنها جماد. وأراد على ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه،فأمسك الفأس وانقض على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوة﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾.

على أية حال، فإن إنقضاض إبراهيم (ع) على الأصنام، حول معبد الأصنام المنظم إلى خربة موحشة، حيث لم يبق صنم على حالته الأولى، فالأيدي والأرجل المحطمة تفرقت هنا وهناك داخل المعبد، وكم كان مظهر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

 وبعد إنتهائه من تحطيم الأصنام، غادر إبراهيم- بكل هدوء وإطمئنان معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعد نفسه للحوادث المقبلة، لأنه كان بعلم أن عمله بمثابة إنفجار هائل سيهز المدينة برمتها ومملكة بابل بأجمعها، وسيحدث موجة من الغضب العارم، الموجة التي سيكون إبراهيم (ع) وحيدا في وسطها إلا أن له ربا يحميه، وهذا يكفيه.

المصدر:تفسير الأمثل