على أثر الكره الذي كان يحمل إبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك عبادة الأصنام، يشير سبحانه إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام، ويبين كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح.
يبين أولا أن الله كما عرف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السماوات والأرض: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.
لاشك أن إبراهيم كان موقنا يقينا استدلاليا وفطريا بوحدانية الله، ولكنه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنه كان مؤمنا بالمعابد ويوم القيامة، ولكنه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إليها الحياة بلغ إيمانه مرحلة ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾.
الآيات التالية تشرح هذا المعنى، وتبين استدلال إبراهيم من أفول الكواكب والشمس على عدم إلوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم: هذا ربي! ولكنه إذ رآه يغرب، قال: لا أحبّ الذين يغربون: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾.
ومرة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربي: ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأفق.
هنا قال إبراهيم: إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾.
عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هاربا من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتطل بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما إن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربي فإنه أكبر وأقوى ضوءا، ولكنه إذا رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم ،أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
الآن بعد أن عرفت أن وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلها قادرا وحاكما على نظام الكائنات، فاني أتوجه إلى الذي خلق السماوات والأرض، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحدا، فاني موحد ولست مشركا: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إبراهيم، مذاهب شتى، غير أن المعظم يراه "الزهرة" أو "المشتري" ويذكر التأريخ أن القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أما الحديث المنقول عن الإمام الرضا (ع) فيقول: إن ذلك الكوكب كان "الزهرة"، وهذا ما جاء أيضا في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق (ع).
الدعوة للتوحيد:
﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
ثم يذكر إبراهيم (ع) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبين في تعابير مختلفة يتضمن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أولا: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾.
هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة، ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث إن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة "عبادة الأوثان" ثم يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾.
فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.
ثم يبين الدليل الثالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إما لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في "الأخرى" وكلا الهدفين باطل... وذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾.
وأنتم تعتقدون بأن هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾.
ولأنه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾.
وبتعبير آخر، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر للمنعم الحقيقي، وتعرفون إن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان أيضا- بذاته المقدسة. وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنه ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.
وبهذا الأدلة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.
ثم يلتفت إبراهيم (ع) مهددا لهم ومبديا عدم إكتراثه بهم قائلا: ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ سواء استجاب له قومه، أو لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!
وجدنا آباءنا كذلك يفعلون:
فأجابوه مباشرة ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾! وهذا التعبير يدل على أنهم يحسوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافيا أن يجيبوه: نعبد أصناما، إلا أنهم أضافوا هذه العبارة: ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾!
وعلى كل حال، فإن إبراهيم لما سمع كلامهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، فـ ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ / أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾؟!
إلا أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائما، فـ ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردوا به على إبراهيم (ع)، وهو جواب دليل بطلانه كامن فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفوا أثر غيره ويصم أذنيه ويغمض عينيه، ولا سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!..
المصدر:تفسير الأمثل