آية الله ناصر مكارم الشيرازي
يتحدث القرآن الكريم عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو "إبراهيم" بطل التوحيد.
ويشير الى الصفات الخمس الحميدة التي كان يتحلى بها إبراهيم (ع):
1-صفته الأولى:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾.
وقد ذكر أسبابا كثيرة للتعبير عن إبراهيم (ع) بأنه "أمة" وأهمها أربع:
الأول: كان لإبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أمة بذاته، وشعاع شخصية الإنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أمة بكاملها.
الثاني: كان إبراهيم (ع) قائدا وقدوة حسنة ومعلما كبيرا لإنسانية، ولذلك أطلق عليه ﴿أُمَّةً﴾ لأن (أمة) اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.
الثالث: كان إبراهيم (ع) موحدا في محيط خال من أي موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه (أمة) في قبال أمة المشركين .
الرابع: كان إبراهيم (ع) منبعا لوجود أمة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة "أمة".
نعم فقد كان إبراهيم أمة وكان إماما عظيما، وكان رجلا صانع أمة، وكان مناديا بالتوحيد وسط بيئة إجتماعية خالية من أي موحد.
2-صفته الثانية: أنه كان ﴿قَانِتًا لِلّهِ﴾.
3-صفته الثالثة: وكان دائما على الصراط المستقيم سائرا على طريق الله، طريق الحق ﴿حَنِيفًا﴾.
4- صفته الرابعة:﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بل كان نور الله يملأ كل حياته وفكرة، ويشغل كل زوايا قلبه.
5-وبعد كل هذه الصفات، فقد كان ﴿شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ﴾.
وبعد عرض الصفات الخمسة يبين القرآن الكريم النتائج المهمة لها، فيقول:
1-﴿اجْتَبَاهُ﴾ للنبوة وإبلاغ دعوته.
2-﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ وحفظه من كل انحراف، لأن الهداية لا تأتي لأحد عبثا، بل لابد من توفر الاستعداد والأهلية لذلك.
3- ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً﴾. "الحسنة" في معناها العام كل خير وإحسان، من قبيل منح مقام النبوة مرورا بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.
4-﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
5-وختمت عطايا الله عز وجل لإبراهيم (ع) لما ظهر منه من صفات متكاملة بأن جعل دينه عاما وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان وخصوصا للمسلمين ولم يجعل دينه مختصا بعصر أهل زمانه، فقال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾.
أسوه للجميع:
إن منهج القرآن "من أجل التأكيد على تعاليمه القيمة" يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد التشديد السابق الذي مر بنا في تجنب عقد الولاء لأعداء الله، يتحدث القرآن الكريم عن إبراهيم (ع) ومنهجه القدوة كنموذج.
رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصا العرب منهم:
قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾(10).
إن حياة إبراهيم (ع) الذي هو كبير الأنبياء، تلهمنا دروس العبود لله، والطاعة والجهاد في سبيله، والوله والحب لذاته المقدسة، إن هذا النبي العظيم الذي كانت الأمة الإسلامية من بركة دعائه، وهي معتزة بالتسمية التي أطلقها عليهم،هو لكم اسوة حسنة في هذا المجال.
والمراد من تعبير ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلة عددهم.
وجاء في التواريخ أيضا أن جماعة في "بابل" آمنوا بإبراهيم(ع) بعد مشاهدة المعاجز التي ظهرت على يديه، وصاحبوه في الهجرة.
ذرية صالحة:
القرآن الكريم يشير إلى النعم التي أسبغها الله على إبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإلهية العظيمة.
يقول سبحانه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ولم تذكر الآية ابن إبراهيم الآخر إسماعيل، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية، ولعل السبب يعود الى أن ولادة إسحاق من "سارة" العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.
ثم بين أن مكانة هذين لم تكن لمجرد كونهما ولدي نبي، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: ﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾.
ثم لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم، وأن التوحيد بدأ بإبراهيم، يقول: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾.
إننا نعلم أن نوحا هو أول أولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.
فبالإشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إنما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث "الوراثة والأصل" و "الذرية".
وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أسرة إبراهيم: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾.
تفسير الأمثل