السيد بلال وهبي
بين أيدينا موسم إلهي مقدس ورحلة ربانية مفعمة بالمعاني زاخرة بالإيحاءات الإيمانية النبيلة، عنيت بها فريضة الحج المباركة، حيث الارتحال إلى مواطن التقدس والتطهر والتنزه، مواطن وقف فيها الأنبياء والأولياء ولا يزالون، يزدادون فيها إيماناً وتسليماً ويطلبون الزلفى إلى اللَّه والتقرب إليه.
هي رحلة أرادها اللَّه هكذا، رحلة الترقي والتسامي في سلم الفضائل والخيرات، رحلة الترفع عن كل مفهوم، منخفض من المفاهيم التي يحملها الدنيويون، وعن كل خلق هابط رذيل، إنها رحلة التحول الإيجابي من كون المرء سلبياً في دينه في خلقه في مفاهيمه ليكون إيجابي الدين والممارسة والخُلُق، إيجابي في كل أمر من أمور الحياة الإنسانية على امتداد ساحاتها. وفي الحج معالم بارزة من معالم الإيمان والانتماء إلى اللَّه، ومن أبرز تلك المعالم معلم اللقاء بالإمام المعصوم المفترض الطاعة على العباد .قال الإمام الباقر عليه السلام: "تمام الحج لقاء الامام". وفسَّرَ الإمام الصادق عليه السلام قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، فقال: "لقاء الإمام".
ولقاء الإمام يكون على نحوين اثنين، فإما أن نلتقي به شخصياً فيكون لقاءاً مادياً يجمع بين الولي والمتولي بين الإمام والمأموم، وهذا ما كان ينعم به المعاصرون للأئمة الأطهار عليهم السلام وما يفوز به البعض من أهل الكرامة في زمن الغيبة. والنحو الثاني من اللقاء أن نلتقي بالإمام روحياً وفكرياً ومعنوياً فيما يدعو الإمام إليه وما يمثله من مبادئ ومُثُل، وما يطمح إليه من أهداف. فنتمثله في أهدافه وأخلاقه وعلاقته باللَّه. إننا وإن كنا في زمان الغيبة الكبرى لصاحب العصر والزمان عجل الله فرجه، فإننا نعتقد أن غيبته الشريفة لا تعني أبداً خلو الأرض منه، فإن الأرض لو بقيت بدون حجة أي بدون إمام لساخت بأهلها كما ورد في الحديث الشريف. ذلك أن حجة اللَّه قد يكون ظاهراً حينما تسمح له الظروف الموضوعية بذلك وقد يكون غائباً مستوراً حينما يستدعي الواقع ذلك، لكن هذا الغياب لا يجعل الحجة بعيداً عن واقع أمته وقضاياها.
يقول الإمام المهدي عجل اللَّه فرجه في توقيعه الشريف للشيخ المفيد: "نحن وإن كنا نائين عنكم بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه اللَّه تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإننا نحيط بأنبائكم، لا يعزب عنا شيء من أخباركم، إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء".
والإمام المهدي حجة اللَّه على الخلق في هذا الزمان. وصاحب هذا العصر، وهو الإمام المفترض الطاعة، وتمام الحج اللقاء به، إما لقاء شخصياً حسياً حيث قد يوفق البعض لهذا الشرف، فينال هذه العطية الربانية، كما حكي عن كثير ممن شُرِّفوا بذلك، وإما أن يذهب للحج بنية اللقاء، اللقاء المعنوي الروحي، لقاء المعنى بالمعنى، وقد أكدت النصوص الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة أن الإمام الحجة عجل اللَّه فرجه يحضر موسم الحج كل عام، وعن محمد بن عثمان العمري رضي اللَّه عنه السفير الأول للإمام الحجة عجل اللَّه فرجه: واللَّه إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة، يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه.
روى الحسن بن الوجناء النصيبي، قال: كنت ساجداً تحت الميزاب في رابع أربع وخمسين حجة بعد العتمة، وأنا أتضرع في الدعاء، إذ حركني محرك، فقال: قم يا حسن بن الوجناء، قال: فقمت، فإذا جارية صفراء نحيفة البدن، أقول إنها من أبناء الأربعين فما فوقها، فمشت بين يديَّ وأنا لا أسألها عن شيء، حتى أتت بي دار خديجة صلوات اللَّه عليها، وفيها بيت يعني غرفة بابه في وسط الحائط، وله درجة ساج يرتقي إليه، فصعدت الجارية، وجاء في النداء: إصعد يا حسن، فصعدت، فوقفت بالباب، وقال لي صاحب الزمان عجل اللَّه فرجه: "يا حسن أتراك خفيت علي؟! واللَّه ما من وقت في حجك إلا وأنا معك فيه"، ثم جعل بعد علي أوقاتي...
وللتشرف برؤيته عجل اللَّه فرجه شرط ضروري وهو أن يكون المريد للرؤية إنساناً موقناً به منتظراً له ثابتاً على دينه وولائه، فهذا الحجة صاحب الزمان عجل اللَّه فرجه يقول لبعض من رآه: "لو لم يثبتك اللَّه ما رأيتني".
إن طلب اللقاء بالإمام في الحج من أهم ما يجب أن يطمع إليه الحاج بعد التوبة والاستغفار والتطهر، فيكون اللقاء إن وفق له هو ذروة المناسك، والمنزلة الأسمى من منازل هذه الفريضة، وإن لمحة خاطفة لمحياه الشريف، أو نظرة عابرة من نظره المبارك إلى الحاج يفوق في قيمته كل القيم الدنيوية التي يناضل أهل الدنيا للحصول عليها. على أننا يجب أن نضع في الحسبان ونحن نطمح لرؤية الإمام سلام اللَّه عليه، أنه يعرفنا على حقيقتنا، حيث لا نستطيع أن نظهر أمامه بعكس ما نبطن في أنفسنا، فليس في إمكاننا أن نقدم له أنفسنا على أننا من أوليائه ونحن في بواطننا من التاركين له، المنقطعين عنه إلى أدائه من شياطين الإنس والجن، فعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: "إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة الكفر".
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو مع أصحابه ثم قال له: أنا واللَّه أحبك وأتولاَّك، فقال له أمير المؤمنين: كذبت، قال: بلى واللَّه إني أحبك وأتولاك، فكرَّر ثلاثاً، فقال له أمير المؤمنين: كذبت، ما أنت كما قلت، إن اللَّه خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرض علينا المحب لنا، فواللَّه ما رأيت روحك فيمن عرض، فأين كنت فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه". فلنحذر أن يكون ظاهرنا مغابراً لباطننا، وندعُ اللَّه تبارك وتعالى أن يجعل من نفوسنا نفوساً مؤمنة موالية، ومن قلوبنا قلوباً تجيش بالتقوى والخشية والمحبة لحججه الطاهرين. اللهم أتمم حجنا بلقاء حجتك على خلقك، المدخر لإقامة أمرك وأحياء دينك يا أرحم الراحمين.
المصدر: مجلة بقية الله