سليمان بيضون
من أجلاء الصحابة وخيارهم وفقهائهم وشجعانهم. شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وآله، باستثناء معركة «بدر» برخصةٍ منه، صلى الله عليه وآله وسلم.
ندبه النبي صلى الله عليه وآله، في وقعة «الخندق» ليجس له خبر المشركين، فدخل بينهم وجاءه بخبرهم قائماً بمهمته خير قيام.
شهد فتح العراق والشام وبلاد فارس، وأقام بالكوفة بعد تمصيرها، وكان له بها حلقة في المسجد يحدث الناس، ويفتيهم في مسائلهم.
من أركان الموالين للإمام علي عليه السلام، وقد أوصى ابنيه بملازمة الأمير واتباعه، فكانا معه بـ«صفين»، واستشهدا بين يديه.
حذيفة بن حسيل بن جابر العبسي، أبو عبد الله. واليمان: لقب والده حسيل، إنما لقب بذلك لحصول فتن وحروب في قومه، فهرب إلى يثرب في الجاهلية وحالف بني عبد الأشهل من الأوْس، فسماه قومه بـ«اليماني» لحلفه لليمانية، وهم أهل المدينة.
أسلم حذيفة قديماً، وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بينه وبين عمار بن ياسر.
جاء في (حلية الأولياء) للأصبهاني عن حذيفة قوله: "إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فأخرج الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحي بالحق من كان ميتاً، ومات بالباطل من كان حياً".
شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء معركة «بدر». يقول: «ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً.
فقلنا: ما نريد إلا المدينة. فأخذوا العهد علينا لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأخبرْنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: تفي بعهدهم، ونستعين الله عليهم".
استشهاد والده في"أحد"
وغزا المشركون المدينة المنورة، فاستعد المسلمون لصدهم في سفوح جبل «أحد»، وكان الانتصار الساحق حليف المسلمين في بادئ الأمر، غير أن قسماً من الرماة الذين عينهم الرسول صلى الله عليه وآله، على فتحة الجبل خالفوا أوامره، فنزلوا للغنائم وتركوا الثغرة مفتوحةً للعدو، فانتهز المشركون الفرصة وهجموا بقيادة خالد بن الوليد من فتحة الجبل، وكر المشركون المنهزمون على المسلمين فصاروا بين طابقين من نار المشركين، واختلط الحابل بالنابل، وبينما كان حذيفة يصول ويجول في الميدان، إذ أبصر أباه يصرع بأيدي المسلمين؛ قتلوه خطأً وهم يحسبونه واحداً من المشركين، فصاح في ضاربيه: «إنه أبي»! لكن القضاء كان أسرع منه، فقضى حسيل شهيداً.
وتنتهي المعركة فيأمر النبي صلى الله عليه وآله، أن تخرج الدية عن والد حذيفة، فيعتذر حذيفة عن أخذها، ويتصدق بها على المسلمين.
المهمة الخاصة في وقعة الخندق
وجاءت غزوة الأحزاب، وحفر المسلمون الخندق حول المدينة، واستمر حصار المشركين للمدينة شهراً، وعبر بعض المشركين الخندق بخيلهم وفي مقدمتهم عمرو بن عبد ود العامري، فجبن المسلمون عن لقائه على الرغم من نداء الرسول صلى الله عليه وآله لمبارزته، إلا أمير المؤمنين علياً عليه السلام فقد خرج إليه، وقتله شر قتلة وابنه معه، وفر الباقون.
واستمرت الحرب الباردة بين المسلمين والأحزاب بين الشدة والرخاء، حتى يئس المشركون من اقتحام المدينة، ودب الخلاف بينهم بعد انهيار معنوياتهم.
أراد النبي صلى الله عليه وآله، أن يقف على جلية أمرهم وآخر تطورات الموقف، فعرض على بعض المقاتلين واحداً تلو الآخر أن يقترب من معسكرهم ويأتيه بخبرهم، إلا أن الخوف استولى عليهم، عند ذلك انتدب صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان، فامتثل لأمر النبي صلى الله عليه وآله، وتسلل وحده ليلاً، وقطع المسافة بين المعسكرين بعد أن عبر الخندق، واخترق الحصار، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران معسكر المشركين، فخيم عليهم الظلام، حتى وصل فسطاط أبي سفيان ورآه جالساً بين أولاده، وبعض زعماء قريش يحيطون به.
وكان أبو سفيان قد خشي أن يفاجئ الظلام جيشه بمتسللين من المسلمين، فقام يحذرهم، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع: «يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه». يقول حذيفة: «فسارعت إلى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له: من أنت؟ فقال: فلان بن فلان".
وهكذا أمن وجوده بين الجيش. واستأنف أبو سفيان نداءه إلى الجيش قائلاً: «يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف [كناية عن الخيل والإبل]، وأخلفتْنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدور ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني راحل".
ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير، فتبعه المحاربون. يقول حذيفة: "لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي، ألا أحْدث شيئاً حتى آتيه، لقتلته بسهم".
وعاد حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره الخبر، وزف البشرى إليه، وما أن أصبح الصباح حتى غادر المشركون المكان خائبين خاسرين، وكفى الله المؤمنين القتال.
في تبوك
حينما علم الرسول صلى الله عليه وآله، بزحف ملك الروم بجيشه لغزو المسلمين في المدينة، خرج لمواجهة تلك الحشود، وقرر أن يكون على رأس جيشٍ قوي لصد الغزاة والقضاء على كل أملٍ يراودهم، وأرسل صلى الله عليه وآله إلى القبائل العربية المتاخمة يعلمهم بما عزم عليه، ويدعوهم للاستعداد. ولما انتهى المسلمون إلى تبوك، وجدوا أن الروم قد انسحبوا منها إلى داخل بلادهم لما سمعوا بزحف المسلمين، فلم تقع المعركة.
ولما رجع النبي صلى الله عليه وآله قافلاً من تبوك إلى المدينة، مكر به جماعة من منافقي المهاجرين والأنصار كانوا في جيشه، وهم اثنا عشر رجلاً تعاقدوا فيما بينهم وتعاهدوا على اغتياله صلى الله عليه وآله في الطريق! وقال بعضهم لبعض: «إذا لم نقدر عليه وسألنا بماذا كنتم؟ نقول له: كنا نخوض ونلعب»، وهو ما فضحتهم به الآية الخامسة والستون من سورة التوبة، وهي قوله تعالى: ﴿ولئنْ سألْتهمْ ليقولن إنما كنا نخوض ونلْعب قلْ أبالله وآياته ورسوله كنْتمْ تسْتهْزئون﴾.
ولما أخبر جبريل النبي صلى الله عليه وآله خبرهم، قال لأصحابه: "من شاء منكم أنْ يأخذ بطن الوادي، فإنه أوْسع له".
ثم أخذ النبي صلى الله عليه وآله طريق العقبة، وأخذ الناس بطن الوادي، إلا النفر الذين أرادوا المكر به، فتبعوه بعد أن استعدوا وتلثموا، وأمر صلى الله عليه وآله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، فمشيا معه مشياً، وأمر عمار أن يأخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها.
اقترب المنافقون متلثمين لتنفيذ مؤامرتهم، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حذيفة أن يضرب وجوه دوابهم ويدفعهم، ففعل حذيفة ذلك. فلما جاوز صلى الله عليه وآله وسلم العقبة - وقد زال الخطر - قال لحذيفة: "هل عرفتهم؟."
فقال: «لم أعرف أحداً منهم». فعرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم، فقال حذيفة: "ألا ترسل إليهم من يقتلهم؟".
فقال صلى الله عليه وآله: «إني أكره أنْ تقول العرب إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين، وضع يده في قتل أصحابه."
ولايته على المدائن
تولى حذيفة المدائن بفارس في حكم عمر بن الخطاب، وكانت عادة عمر إذا استعمل عاملاً كتب في عهده: «وقد بعثت فلاناً وأمرته بكذا..»، فلما أرسل حذيفة والياً على المدائن، كتب في عهده: "اسمعوا له وأطيعوه وأعطوه ما سألكم".
فلما قدم حذيفة المدائن استقبله الدهاقون [رؤساء الأقاليم أو كبار المزارعين، واللفظ أعجمي] والأهالي، فقرأ عهد ولايته، فقالوا له: «سلنا ما شئت». فطلب ما يكفيه من القوت وعلف دابته، وأقام بينهم وأصلح بلادهم.
وفي ولايته تلك غزا حذيفة نهاوند من بلاد فارس سنة 22 هجرية، ثم غزا الدينور، وماه سندان، وهمدان، والري، فافتتحها جميعها.
ولما استخلف عثمان بن عفان ، عزل حذيفة بن اليمان من ولاية المدائن، وعين ابن عمه الحارث بن الحكم أخا مروان، فأقام فيها مدة يتعسف في حكم أهلها ويسيء معاملتهم، فوفد وفدهم إلى عثمان وقد شكوا إليه سوء معاملة الحارث، وأغلظوا عليه في القول؛ فولى عليهم حذيفة بن اليمان ثانية، فمكث فيها إلى أن قتل عثمان، ثم جاءت حكومة أمير المؤمنين علي عليه السلام، فأقر حذيفة عليها، فلما وصل عهد الولاية إلى حذيفة جمع الناس وصلى بهم، ثم أمر بالكتاب فقرئ عليهم، وهو: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وأسأله أنْ يصلي على محمدٍ وآله...".
إلى أن قال عليه السلام: "وقد وليت أموركم حذيفة بن اليمان، وهو ممن أرتضي بهديه، وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على مريبكم، والرفق بجميعكم، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والإحسان ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته."
فكبر الناس جميعاً، وقاموا بالبيعة للإمام علي عليه السلام على يد حذيفة.
وفاته
لبث حذيفة أربعين يوماً بعد تصدي أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة الظاهرية، وذلك سنة ست وثلاثين. جاء في (رجال الطوسي)، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام "أن حذيفة لما حضرته الوفاة وكان آخر الليل، قال لابنته: أي ساعة هذه؟
قالت: آخر الليل.
قال: الحمد لله الذي بلغني هذا المبلغ، ولم أوال ظالماً على صاحب حق، ولمْ أعاد صاحب حق".
وفي (المستدرك) للنيسابوري، عن بلال بن يحيى: "لما حضر حذيفة الموت، وكان قد عاش بعد عثمان أربعين يوماً، قال لنا: أوصيكم بتقوى الله والطاعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب."
وفي (تاريخ دمشق) أن حذيفة لما نزل به الموت، قال: "هذه آخر ساعةٍ من الدنيا، اللهم إنك تعلم أني أحبك فبارك لي في لقائك"، ثم مات.
مواقفه من أمير المؤمنين عليه السلام
أورد ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) عن حذيفة قوله: "كنا نعبد الحجارة ونشرب الخمر، وعلي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله، ليلاً ونهاراً، وقريش يومئذٍ تسافه رسول الله صلى الله عليه وآله، ما يذب عنه إلا علي عليه السلام".
وجاء في (الأمالي) للصدوق قول حذيفة في وصف الإمام علي عليه السلام: "ذاك خير البشر، ولا يشك فيه إلا منافق". وقريب منه في (شرح الأخبار): "ذلك خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، لا يشك فيه إلا منافق."
وذكر الشيخ الطوسي في (الأمالي) أنه لما قدم الحسن بن علي صلوات الله عليهما، وعمار بن ياسر رضي الله عنه، يستنفران الناس للقتال، خرج حذيفة رحمه الله وهو مريض مرضه الذي قبض فيه، فخرج يهادى بين رجلين، فحرض الناس وحثهم على اتباع علي عليه السلام وطاعته ونصرته، ثم قال: "ألا من أراد - والذي لا إله غيره - أن ينظر إلى أمير المؤمنين حقاً حقاً، فلينظر إلى علي بن أبي طالب، فوازروه واتبعوه وانصروه".
المصدر: موسوعة طبقات الفقهاء وأعيان الشيعة