آية الله جوادي الآملي
النقطة الأخرى التي يلزم ذكرها قبل القيام بإثبات ولاية الفقيه، والتي تنضوي تحت المبادئ التصورية والتصديقية، هي أن الشؤون المطروحة في الإسلام للفقهاء ترتبط بالفقيه الجامع للشرائط الذي يحوز على الاجتهاد المطلق والعدل المطلق، وإلا فإن ذلك الشخص المتجزىء في الفقه لا يختلف عن العوام في الإسلام ولا تعطى له أية سمة خاصة.
وقد أراد البعض أن يعتبر أن فتوى الفقيه المتجزئ في مسألة التقليد هي حجة عليه، لكن هذا المقدار بالنسبة له لا يعطي أية صفة أو منصب في المجتمع أو الأفراد.
فالمجتهد المطلق هو الذي يعلم أصل الإسلام وفروعه بالاستنباط والاستدلال، والعدل المطلق هو رعاية الحدود والضوابط الإلهية في كافة المجالات والصعد.
لا يحق للمجتهد المتجزئ التدخل في سياسة الدولة، لأنه ليس فقيهاً جامعاً للشرائط. وكذلك فإن الذي يقول بأن الدين منفصل عن السياسة هو متجزئ في الأصل. فالاجتهاد المطلق في محور كل الإسلام والإسلام مجموعة منسجمة بحيث أن سياسته عين ديانته وديانته عين سياسته.
لهذا فإن العالم الواقعي بالإسلام هو الذي يكون مجتهداً ومستنبطاً في جميع الأصول والفروع، في العبادات والعقود والإيقاعات والسياسات. والعادل المحض أيضاً هو الذي لا تختص عدالته بحدود خاصة. أي أنه لا يكون كالذي يراعي الحدود الشرعية في العبادات، كأن يبتعد عن الغيبة والتهمة، ولكنه في المسائل السياسية يكون مصدقاً للحديث: "آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الجاه" في تجاوزه لحرمة الآخرين.
لقد ذكرنا سابقاً أن المقصود من ولاية الفقيه هو ولاية الفقاهة والعدالة، وقد علمنا أن الإسلام واحد عير قابل للتجزئة، ولهذا فإن الذي لا يكون ملتزماً ومجتهداً في العمل والعلم بالنسبة لكل الإسلام فإنه لن ينال شيئاً من هذه الولاية.
وبمعزل عن هذا، فإنّ الولاية الإلهية في الحقيقة هي من أولئك الأنبياء العظام والأئمة المعصومين عليهم السلام، وهم على حسب بعض الروايات التي مرت بالنسبة للولاية التكوينية، فإن الله تعالى قد تعهدهم بالتربية في الأصول العلمية والعملية في السياسة وهداية الناس.
من جملة الروايات ما نقل عن فضيل بن يسار:
قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: ﴿إنك لعلي خلق عظيم﴾، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده فقال عز وجل: ﴿ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾. وإن رسول الله كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزلُّ ولا يخطىء في شيء مما يسوس به الخلق...
وبسبب هذه الصفة يتعهد الأنبياء والأئمة المعصومون عليهم السلام سياسة المجتمع، كما نعبر في الزيارة الجامعة بعد السلام: "السلام عليكم يا أهل بيت النبوة... وساسة العباد".
وأيضاً بسبب وحدة الحياة الدينية والسياسية كان أئمة الدين يذكرون في القرآن الكريم بعبارات مختلفة تحت عنوان المواجهة والجهاد، وفي النهاية القتل والشهادة كما في بعض الموارد التي تقرن فيها سيرة الكفار بقتل الأنبياء، كما يقول تعالى: ﴿ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق﴾ (البقرة: 61).
وفي أمكنة أخرى يوبخ الله أولئك على هذه السيرة ويتوعدهم بالعذاب الأليم: ﴿قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين﴾(البقرة: 91).
﴿إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران: 21).
إذا كانت الولاية الإلهية على عهدة الأشخاص الذين امتزجت حياتهم ومماتهم بالسياسة والديانة، ففي زمان الغيبة أيضاً الذي يمكنه أن يتحمل هذه المسؤولية هو الذي ارتبط بهذه الأمور في العلم والعمل.
أدلة ولاية الفقيه وأقسامها
والآن تتاح لنا الفرصة لذكر الأدلة التي تقام على إثبات ولاية الفقيه بعد ذكر بعض المبادئ التصورية والتصديقية.
في جميع هذه الأدلة، وإن كان العقل الإنساني هو الحاكم، لكن على حسب تناسب المقدمات المستخدمة فيها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- الدليل العقلي المحض: وهو الدليل الذي يعتمد فيه بالكامل على المقدمات القياسية والاستدلالية العقلية. فالدليل العقلي، يتعهد إضافة إلى الاستنباط والاستدلال بتبيين المواد والموضوعات التي يستدل بها.
2- الدليل المركب من العقل والنقل: وهو الدليل الذي تكون فيه بعض المقدمات والمبادئ نقلية والبعض الآخر عقلية.
3-الدليل النقلي المحض: وهو الدليل الذي يتعهد النقل فقط بتأمين مقدماته، وإن كان العقل يقوم بالاستبناط في هذه المقدمات ويستدل بها.
خصائص الدليل العقلي المحض
بما أن مقدمات الدليل العقلي المحض تؤمن بواسطة العقل، فإنه برهان موثوق ومعتمد. فالمقدمات البرهانية بسبب عقلانيتها لا تنظر أبداً إلى الأشخاص، وهي تتمتع بأربع خصائص. وهذه الخصائص كما ذكرت في الكتب المنطقية هي التالية:
1-الكلية.
2- الذاتية.
3-الدوام.
4-الضرورة.
والنتيجة المتفرعة عن البرهان بسبب الخاصية الموجودة في المقدمات تتمتع بتلك الخصائص أيضاً. ولهذا لا يمكن أبداً إقامة البرهان على شخص أو أشخاص محددين، لأنهم فاقدون لتلك الخصائص المذكورة.
ومن هذا البيان يعلم أن الأدلة العقلية المحضة والبراهين التي تقام في باب النبوة والإمامة لا تنظر أبداً إلى النبوة أو الإمامة الخاصة وإنما تتعهد فقط بإثبات النبوة أو الإمامة العامة.
وفي باب ولاية الفقيه، كلما أقيم برهان على ضرورتها في عصر الغيبة فإنه يكون ناظراً إلى أصل ولاية الفقيه لا إلى الولاية الشخصية الخاصة.
المصدر: مجلة بقية الله