“خطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة”،هذا القول منسوب الى سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام بأن الله قضى بالموت على خلقه جميعاً أنبياء وأئمة وعباد إذ جعل لكل ميتة سبباً، وقضى الله بدفن هذه الأجساد إكراماً لها.
ولعل أشهر هذه المدافن وأقدمها هي “مقبرة البقيع” والتي تعرف أيضاً بإسم “جنة البقيع” التي تقع بالقرب من المسجد النبوي الشريف وتضم رفاتا لآلاف من أهل المدينة ومن توفي فيها وزوجات النبي محمد عدا السيدة خديجة، كما دفن فيها الإمام الحسن المجتبى والإمام علي بن الحسين زين العابدين، وأولاده الإمام محمد بن علي الباقر وابنه جعفر الصادق، وعدد من الصحابة.
وانطلاقا من هذه الاهمية التاريخية والدينية والثقافية التي تكتسبها مقبرة البقيع ومظلوميتها، سعى الإمام السيد موسى الصدر من خلال منطق الحوار إلى تذليل العقبات للوصول إلى إمكانية تشييد أضرحة فيها، وبذل جهداً من خلال بعض المؤتمرات التي شارك فيها في السعودية للحد من طباعة الكتب الملفقة ضد الشيعة، كما استطاع أخذ الإدانة من سلطة الملك في ذلك الوقت.
ويقول السيد موسى الصدر في مقابلة مع مجلة الحوادث بتاريخ ٢٠-١٠-١٩٧٣ انه “في سنة ١٩٦٢ كان السيد محسن الحكيم يريد الحج، فكلفني بالإتصال بالمسؤولين في السعودية لسؤالهم: ”هل من الممكن السماح ببناء المشاهد المشرفة بالبقيع لأنَّ فيها الإمام الحسن وزين العالدين والباقر وجعفر الصادق، والسيدة فاطمة”؟
ويتابع السيد الصدر ”أجريت اتصالات مع الشيخ محمد سرور الصبان… واقتَرَحَ أن نشترك في مؤتمر الرابطة، لكي نحضر ونناقش القضية مع علماء الوهابية،…فاشتركنا وتمكنا من أخذ إقرار بإحياء الآثار الإسلامية، والآثار منها بيت النبي، وبيت عبد المطلب، وغار حراء، غار ثور، وكلها موجودة، وكلها مهملة إلى حد بعيد”.
البقيع ثروة دينية وانسانية
وفي هذا السياق يشير المسؤول الثقافي في حركة امل مفتي صور القاضي الشيخ حسن عبد الله إلى ان ”الامام المغيب السيد موسى الصدر كان يراعي الاهتمامات الدينية والأخلاقية بكل جوانبها، ومن الطبيعي ان يتدخل الامام في اعادة بناء اضرحة البقيع لان ائمة البقيع بعيدا عن الجانب الديني هم يشكلون ثروة انسانية بامتياز بما قدموا من علوم، واقل واجبنا الانساني ان نعيد بناء هذه المقامات والاضرحة”، لافتا إلى ان “هذا الامر ليس جديدا بل كان محل تأمل وانتباه في عالمنا الاسلامي لانه لا يوجد في فكرنا الديني الاسلامي ما يمنع من بناء مقامات وتكريم هذه الشخصيات باستثناء الرؤية الوهابية في هذا الموضوع التي ترى فيه شيئا من الشرك”.
واضاف القاضي عبد الله ”إننا اليوم امام واقع يعيدنا له الامام الصدر بان نفتح باب الحوار مع هذه الفئة من اجل بناء هذه الاضرحة ببعدها الانساني والديني، والامام الصدر عندما عرض عليه السيد محسن الحكيم التدخل كان هذا الامر أي مظلومية البقيع، من جوهر الرؤية التي يراها من اجل اعادة هذا التراث الثقافي والفكري والايماني والانساني، لكنه لم يفلح باقناع هذه الجماعة والسبب أن هناك دائما وعود ولكن عمليا لا يوجد تطبيق ولذلك لا تزال الى اليوم فقط“.
واعتبر الشيخ عبدالله ان “الامام الصدر كان اول من تجرأ على مناقشة قضية البقيع مع الادارة الحكومية في المملكة السعودية التي كانت تتحجج دائما بالمعوقات..لكن هل هناك معوقات فعلية؟ ام هناك معوقات ذات طابع اخر”.
دوافع هدم المقبرة
وفي الحديث عن الدوافع التي ادت لهدم المقبرة ورأي الدين الإسلامي بهذا الفعل يرى الشيخ عبدالله بأن “للميت حرمة ولا يجوز الإساءة الى قبور المسلمين ونبشها ووضع عليها ما يشين لها”، مشيرا إلى أن رواد هذه الأفعال هم أتباع فكر ابن تيمية الذي يرى ان زيارة القبور محرمة وان كثيرا من الامور ليس لها قيمة مثلا عندما يموت الشخص يفقد قيمته حتى النبي اعتبروا ان بعد وفاته قد انتهى ولم يعد له قيمة وهذا مخالف لجمهور المسلمين في العالم الاسلامي”،
مؤكدا أنه كانت هناك “مساع حثيثة ومستمرة لهدم قبر النبي، لكن حينها قامت قيامة المسلمين وحالت دون تنفيذ هذا الامر الذي يعود الى خلفية مدسوسة بالفقه الاسلامي، وهدفها طمس رؤية دينية تعيدنا الى الجذور الاسلامية ايام النبي”.
الدعوة لعقد مؤتمر اسلامي
وعن المواقف التي تبعت عملية هدم البقيع يشير الشيخ عبدالله إلى انها “اقتصرت على الاستنكارات ولم تتعداها، ولكن البعض حاول اختلاق المشاكل رغم اننا لسنا دعاة فتنة ومشاكل”، مؤكدا على ضرورة “الدعوة إلى انعقاد مؤتمر اسلامي جامع تناقش فيه منظمات العالم الاسلامي آلية بناء رؤية عقائدية ودينية حول اعادة بناء هذه المقابر وتبديد الهواجس المطروحة والاشاعات التي تثار حول مرحلة ما بعد بنائها، ولكن مع الاسف هم يعتبرونه بأنه رأي سياسي لدولة معينة او للشيعة خصوصا وهذا امر غير صحيح”.
ويتابع الشيخ عبدالله: ”نحن نتطلع من خلال هذه المقامات والاضرحة الى رؤية مستقبلية للاجيال القادمة لان الجيل الاسلامي القادم ان لم يكن متجذرا تاريخيا يعني ذلك انه فاقد للهوية و اعادة الهوية للمسلمين يتمثل باعادة بناء هذه المقامات”.
استخدام العالم الافتراضي لا يكفي
أما عن الحملات الإعلامية التي تنتشر على وسائل التواصل الإجتماعي فاعتبر الشيخ عبدالله أنها “تبقي القضية حية والآن هذه المنصات الافتراضية لعلها هي الصوت الابرز الذي يسمع اليوم”، معتبرا أن “هذا امر ضروري لكنه لا يكفي وهو بحاجة لان تعود القضية الى فحواها الدينية بعيدا عن التجريح والاساءات يعني ان يكون التواصل هادفا ومنطلقا من مخطط بنيوي فكري من اجل تعزيز رؤية بناء الاضرحة”.
وختم المسؤول الثقافي المركزي في حركة امل بالقول: أننا “على ثقة بان الاضرحة ستبنى في البقيع ونحن لم ننسى ولن نترك هذا الامر بكل المحافل ولا اعتقد بأن مسلما فضلا عن ان يكون شيعيا الا ويحلم بأن يكون هناك ابنية حقيقية تعيدنا الى التاريخ الاسلامي في البقيع وليس البقيع فحسب بل في كل الأماكن التي تحمل دلالات تاريخية هامة كمكان “عركة احد، ورد الشمس وغيرها من الاماكن التي يسعى التيار المنحرف إلى طمس آثارها. وكل هذا بحاجة الى تعاون اسلامي سني شيعي من اجل اعادة بناء هذا التاريخ الاسلامي العريق”.
مهدي سعادي
المصدر: شفقنا
110