الشيخ أحمد سلمان
نهج البلاغة هو ما انتخبه الشريف الرضي قدس سره من كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام ، من خُطَب وحِكَم ورسائل ، ورتبها ترتيباً فنيًّا رائعاً ، وقد يشتبه على البعض فيظن أن الشيعة ينسبون هذا الكتاب للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، فيزعمون أنه هو الذي جمعه ، وهذا خطأ كما قدمنا ؛ لأن الخطب التي في الكتاب من اختيار وجمع الشريف الرضي قدس سره .
ولعل أول سؤال ينقدح في ذهن القارئ هو : لماذا اخترنا نهج البلاغة دون غيره من الكتب أمثال الكافي الشريف الذي قيل فيه : (( إنه ما صُنَّف في الإسلام كتاب مثله )) أو بقية الكتب الأربعة ؟
والجواب على هذه في نقاط :
النقطة الأولى : أن كتاب (نهج البلاغة) يحوي خطباً منسوبة لأميرالمؤمنين عليه السلام ، وهو من أعظم الشخصيات التي عرفها الإسلام ، فهو عند الشيعة إمام منصَّب من الله عزَّوجل ، معصوم من كل نقيصة ، وعند العامة هو من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومن المبشّرين بالجنة ، وخليفة مفترض الطاعة ، فعظمة الكتاب تكمن في نسبته لشخصية عظيمة جدًّا ، خصوصاً أن بعض مضامين النهج تعتبر وثائق مهمة ، مثل رسائل الإمام علي عليه السلام وعهوده لولاته وغيرها التي تؤرخ لتلك الفترة الزمنية المهمة .
النقطة الثانية : إضافة إلى عظمة أميرالمؤمنين عليه السلام فإن هذه الشخصية متنازع فيها بين المسلمين ، فكل طائفة تحاول إثبات انتسابها إليه ، وتنفي ذلك عن غيرها ، فمثلاً ، الشيعة يقولون إن عليًّا عليه السلام هو إمامهم ، وكل من خالفهم هو منحرف عنه ، وفي المقابل نرى أن المخالفين للشيعة يتّهمونهم بأنهم خالفوا عليًّا عليه السلام ، وأنهم مبتدعون لا متّبعون ، ولذلك فإن كل تصريح يصدرعنه عليه السلام وينسب إليه سيكون مهمًّا جداًّ ؛ والمتنازعون سيتخلفون في التعاطي معه بنحو متباين جدًّا ، فإن بعض سيثبته ، وآخرون سينفونه ، وهذا عين ما حصل مع نهج البلاغة ، فإن مخالفي الشيعة حاولوا على مر العصور الطعن فيه وتستقيطه ، وأما الشيعة فإنهم دافعوا ونافحوا عنه ؛ لإثبات صحّة غالبيته واعتباره .
النقطة الثالثة : هي أن الشريف الرضي قدس سره كان غرضه من جمع هذه الكلمات هو إظهار بلاغة أميرالمؤمنين عليه السلام ، فكان الضابط الوحيد في جمع هذه الخطب والرسائل هو ما اشتملت عليه من نكات ومحسنات بلاغية ، لكن بعضهم نقل الكتاب من هدفه الأساس ، وصار يحتج به في علوم مختلفة ، فنجد أن بعضهم يحتج بنصوص من نهج البلاغة في مسائل العقائد ، أو التاريخ ، أو الأخلاق والرقائق أيضاً .
ولهذا فإن تنقيح كتاب نهج البلاغة ، ووضع منهجية للتعامل مع مروياته مهم جدًّا؛ لفض النزاع القائم حوله وحسم الخلاف فيه .
هذه الأمورالثلاثة تجعلنا نقدم البحث في نهج البلاغة على كل الكتب الحديثية الموجودة عند الشيعة ، ونشمر عن ساعدي الجد لدفع كل الشبهات التي أثيرت حوله .
من هو الشريف الرضي ؟
جامع كتاب نهج البلاغة هو الشريف محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولد في سنة ٣٥٩ هـ ببغداد ، وكان أبوه نقيب العلويين في العراق ، وأمه سيَّدة جليلة القدرمن بيت علم وتقوى ، عاش في بغداد طوال حياته ، وكان وجيهاً عند كل الطوائف بلا خلاف ، بل كان ذا حظوة عند الدولتين المتصارعتين في ذلك الوقت : العباسية والبويهية .
١ – الشريف الرضي قدس سره عند الشيعة :
أجمع الشيعة كلهم بلا خلاف على وثاقة الرضي قدس سره ، بل على عدالته وجلالة قدرة ، ولم يطعن فيه أحد أو يغمز فيه بشيء :
قال ابن عنبة : وأما محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الأبرش ، فهو الشريف الأجل الملقب بالرضي ، ذوالحسبين ، يُكنى أبا الحسن ، نقيب النقباء ، وهو ذوالفضائل الشائعة والمكارم الذائعة ، كانت له هيبة وجلالة ، وفيه ورع وعفة وتقشف ومراعاة للأهل والعشيرة ، ولي نقابة الطالبين مراراً ، وكانت إليه إمارة الحاج والمظالم ، كان يتولى ذلك نيابة عن أبيه ذي المناقب ، ثم تولى ذلك بعد وفاته مستقلاً ، وحجّ بالناس مرات ، وهو أوّل طالبي جعل عليه السواد (1) .
وكان أحد علماء عصره ، قرأ على أجلاء الأفاضل ، وله من التصانيف كتاب (المتشابه) في القرآن ، وكتاب (مجازات الآثارالنبوية) ، وكتاب ( نهج البلاغة) ، وكتاب ( تلخيص البيان عن مجازات القرآن )، وكتاب (الخصائص) ، وكتاب (سيرة والده الطاهر) ، وكتاب انتخاب شعر ابن الحجاج ، سماه (الحسن من شعرالحسين) ، وكتاب (أخبارقضاة بغداد) ، وكتاب (رسائله) ، ثلاث مجلدات ، وكتاب (ديوان شعره) ، وهو مشهور(2).
وترجم له السيد محسن الأمين العاملي قدس سره ، فقال : كان أوحد علماء عصره ، وقرأ على أجلاء الأفاضل ، فكان أديباً بارعاً متميَّزاً ، وفقيهاً متبحَّراً ،ومتكلماً حاذقاً ، ومفسَّراً لكتاب الله وحديث رسوله محلَّقاً ، وأخفتْ مكانة أخيه المرتضى العلمية شيئاً من مكانته العلمية ، كما أخفتْ مكانتُه الشعرية شيئاً من مكانة أخيه المرتضى الشعرية ، ولهذا قال بعض العلماء : لولا الرضي لكان المرتضى أشعرالناس ، ولولا المرتضى لكان أعلم الناس .
وظهر فضله في مؤلفاته ، فقد ألف كتباً ، منها :
كتاب (حقائق التأويل في متشابه التنزيل) ، قال عنه ابن جني أستاذ الرضي : صنَّف الرضي كتاباً في معاني القرآن الكريم يتعذر وجود مثله ، والحق يقال : إن من يتأمل فيما ذكره الرضي في ذلك الكتاب من دقائق المعاني يعلم صدق قوله : إنه يتعذَّر وجود مثله ، وقد وُجد منه الجزء الخامس فقط ، وطبع في العراق ، وكتاب (مجازات الآثارالنبویة) ، أبدع فيه ما شاء وأبان عن فضل باهر ومعرفة بدقائق العربية ، وقد طُبع في بغداد ، ثم أُعيد طبعه طبعاً متقناً في مصر، وكتاب (تلخيص البيان عن مجازات القرآن) نظير كتاب مجازات الآثارالنبوية ، قال فیهما مؤلفهما : إنهما عرينان لم أُسبّق إلى قرع بابهما ، وكتاب (الخصائص) ، ذكر فيه خصائص أئمة أهل البيت ، وكتاب (أخبارقضاة بغداد) ، وتعليق على خلاف الفقهاء ، وتعليق على إيضاح أبي علي الفارسي ، وكتاب ( الزيادات في شعرأبي تمام) ، ومختار شعر أبي إسحاق الصابي، وكتاب ( ما دار بينه وبين إسحاق الصابي من الرسائل) ، وكتاب رسائله في ثلاث مجلدات ، ومن ذلك يظهرأنه ألف في النحو والتاريخ والفقه والتفسير وغيرهما (3).
الهوامش:
(1)أي لبس العمامة السوداء التي يلبسها السادة في عصرنا الحاضر وما قبله .
(2)عمدة الطالب ٢٠٧ .
(3)أعيان الشيعة ٩ / ٢١٨ .
المصدر: كتاب نهج البلاغة فوق الشبهات والتشكيكات