إعداد: حوراء حمدان
"23 عاماً وسط الطُّوفان"، كتاب يخطّ بين جنباته تاريخاً جهاديّاً مشرقاً لامرأة حديديّة، خَبَرت قوّة القلب وصلابة الروح التي صقلتها من فيض العشق الإلهيّ، فلَمَعت في سماء الثورة الإسلاميّة نجمةً مرضيّة، وطاهرة على طريق روح الله. هي السيّدة مرضيّة حديدي دبّاغ المعروفة باسم "طاهرة دبّاغ"، "المرأة المجاهدة الثوريّة التي لم تعرف التعب.. ولم يستطع السجن والتعذيب أنْ يُضعفا من عزيمتها في الدفاع عن الثورة وفي أداء وظيفتها"(1)، كما رثاها السيّد القائد الخامنئي دام ظله. يروي الكتاب الصادر عن دار الولاية للثقافة والإعلام، مذكّرات السيّدة مرضيّة عبر أربعة فصول، يتراوح زمن حدوثها بين الولادة وفترة انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.
ملامح الرفض الأُولى
ترعرعت السيّدة مرضيّة (همدان 1939م- طهران 2016م) في أسرة متديّنة مثقّفة مليئة بالحبّ والعشق الإلهيّ. بدأت شعلة الثورة تتوقّد في نفسها منذ الصغر، لا سيّما على مظلمة النسوة في مسألة عدم التعلّم، والفوارق الطبقيّة والمشكلات الثقافيّة في المجتمع. هذه الشعلة ما برحت تُضيء أمام فكرها الفتيّ المتأمّل الآفاق الواسعة. كان زواجها من السيد محسن دبّاغ بداية الهجرة وطريقاً إلهيّاً نحو رحلة الجهاد.
بداية النشاط الجهاديّ
تمثّلت في نفس السيدة مرضيّة دوافع العمل والمشاركة في العمل السياسيّ بعد رؤيتها الإمام الخميني قدس سره في عالم الرؤيا. وشكّلت انتفاضة خرداد(2) واعتقال الإمام الخمينيّ قدس سره إجابة عن أسئلة كثيرة تتعلّق بالظلم والمظلومين. وبعد إصرارها على زوجها، ذهبا للقاء الإمام في قم بعد إطلاق سراحه، إلّا أنّها لم تستطع لقاءَه إلّا عن بُعد من بين الجموع. أكملت السيّدة مرضيّة دروسها عند آية الله سعيدي، أحد تلامذة الإمام قدس سره، ثم توسّط السيد سعيدي لدى زوجها لإكمال مشروع النضال، فقبلَ ذلك خدمةً للإسلام.
الحصار والاعتقال
تكشف فترة حصار أزلام النظام الشاهنشاهيّ لبيتها عن شخصيّة السيّدة الصلبة، حيث كانت تحاول قدر المستطاع حماية زملائها من الاعتقال والحفاظ بكلّ قوّة على البيانات والكتب. واعتُقلت السيّدة أكثر من مرّة، أثبتت خلالها صلابة في الموقف وقدرة على التحمّل رغم شدّة التعذيب والمرض المضني، والضغط المتزايد بعد اعتقال ابنتها رضوانة، وقاست أشدّ الصعوبات لا سيّما بسبب حالتها الصحيّة المزمنة والجراحات المتقيّحة في أنحاء جسدها. نُقلت بعد ذلك إلى سجن قصر، الذي ضمّ نسوة من مختلف الاتّجاهات السياسيّة. ذكرت السيّدة العديد من المواقف والمشاهدات خلال هذه الفترة، كعلاقاتها مع السجناء(3). وقد أُصيبت خلال فترة تواجدها في السجن بمرض السرطان(4)؛ ممّا سرّع في إطلاق سراحها.
الهروب إلى الخارج ومهمات التدريب
نُصحت السيّدة بالمغادرة الفوريّة للبلاد بعد القبض على أحد الإخوة ووشايته عنها رغم عدم علاقتها بالأمر. اتّجهت الطائرة إلى بريطانيا. لم تكن تلك الهجرة إلّا سيْراً آخر لإكمال مشروعها النضاليّ. بعد ذلك، سافرت إلى سوريا مع المسؤول المباشر للحركة الثوريّة الشهيد محمد منتظري الذي وصفته بالشخصيّة الفريدة المتّسِمة بالتقوى(5). التقت الإمام الخميني قدس سره في النجف. وبعد العودة من هذا اللّقاء واستشارة الإمام، اتّجهت إلى لبنان، وبدأت تدريبها العسكريّ على حرب العصابات، وشاركت في عمليات ضدّ العدوّ الإسرائيليّ(6). بعد ذلك، أُوكلت إليها مهام عدّة، منها تدريب النسوة عسكريّاً مضافاً إلى الدورات الثقافيّة. كما شاركت في الحركة الاحتجاجيّة(7) التي نظمها الشهيد منتظري لتحسين أوضاع المعتقلين والمطالبة بعودة الإمام. مرضت السيّدة جرّاء هذا الاضراب واضطُرّت إلى المكوث في منزل بني صدر، وذكرت عدداً من مشاهداتها هناك، حيث لم تكن مرتاحة للحالة الدينيّة لعائلته.
فترة خدمة الإمام قدس سره
نتيجة محاصرة بيته من قبل النظام العراقيّ (حكم صدام)، تقرّر ذهاب الإمام الخميني قدس سره إلى فرنسا وإقامته في منطقة نوفل لوشاتو. وبعد التشاور، التحق به الناشطون الثوّار من سوريا، ومن بينهم السيّدة مرضيّة. كانت فرحتها لا توصف، لا سيّما أنّه أنيط بها الوظائف المرتبطة ببيت الإمام وشؤونه الخاصّة والأمنيّة، فكان ذلك سبباً لانتعاش روحها من بركات حضوره والاستفادة من سيرته العرفانيّة(8).
الانتصار والعودة
مع الأخبار الواردة من إيران عن هروب الرأسماليّين والشاه، بدأ الاستعداد للعودة إلى الوطن، إلّا أنّ السيّدة دبّاغ لم تستطع العودة مع الإمام بسبب تعرّضها للضرب عند محاولتها القبض على أحد المتسلّلين إلى بيته. وبعد أن تحسّنت صحتها وأخْذ الإذن من الإمام، عادت السيّدة مرضية إلى إيران تظلّلها مشاعر العزّة والكرامة لانتصار الثورة التاريخيّ رغم القلق من المتآمرين. وبعد العودة بأسبوع، بدأت السيدة مهمّتها الأولى، وهي السيطرة على المقرّات العسكريّة لمنظّمة خلق، كما دُعيت إلى الاجتماعات التأسيسيّة للحرس الثوريّ وكُلّفت فيما بعد بإنشاء الحرس الثوريّ غربيّ البلاد (همدان)، هذه المسؤوليّة "الثقيلة جدّاً" كما وصفتها.
قيادة الحرس الثوريّ في همدان
ضاعف انتشار المتآمرين غربيّ البلاد من مسؤوليّاتها العسكريّة، إلّا أنّ جميع الأعمال كانت تتحقّق بالتوكّل على الله، والروح الجهاديّة العالية للحرس الثوريّ. كان الكلّ قلباً واحداً تجذبهم روح التضحية والإيثار والعشق، فلا قيمة للمنصب أو المسؤوليّة. وبعد أن تعرّضت لعدد من محاولات الاغتيال، وإصابتها خلال جولة استطلاع في كردستان، قدّمت السيدة دبّاغ استقالتها من القيادة وقامت بنشاطها في مجال آخر. وتسلّمت فيما بعد مسؤوليّة إدارة سجون النساء في طهران(9).
الرسالة التاريخيّة
أُوكلت إليها وعدد من الإخوة الأجلّاء مهمّة تاريخيّة، وهي إيصال رسالة الإمام الخميني قدس سره إلى رئيس الهيئة الرئاسيّة للاتحاد السوفياتيّ غورباتشوف. كانت المهمّة محفوفة بالمخاطر؛ لذلك كتب كلٌّ منهم وصيّته واتّجهوا إلى أداء المهمّة. تصف السيدة مرضية تلك الأوقات بأصعب أيّام العمر، وتذكُر اهتمام واندهاش الصحافة في مسألة حضورها. كما حلّلت أسباب اختيار الإمام الخميني قدس سره لها في هذه المهمة، والتي تعود برأيها إلى اعتنائِه بمسألة دور المرأة وقيمتها وأهميّة مشاركتها في العمل السياسيّ. إذ يقول الإمام روح الله الخمينيّ قدس سره: "إنّ للمرأة دوراً كبيراً في المجتمع، والمرأة مظهر لتحقّق آمال البشر"(10).
من خلال هذا القول تظهر أهميّة هذا النوع من الكتب والاستفادة المعنويّة والروحيّة المكتسبة لجهة الاطّلاع على تفاصيل حياة الثوّار والمحطّات الملهمة لهم. على أنّ ما يعنينا في هذا الكتاب؛ هو معاينة التجربة النسويّة الثوريّة وقدراتها النضاليّة، وهذا يكشف عن أهميّة دور المرأة الذي يتعدّى دور الأم المشاركة في عمليّة البناء الإنسانيّ إلى دور الصانعة للحدث، والتكامل المشترك مع الرجل في صناعة القرار المجتمعيّ على مختلف الأصعدة.
الهوامش:
1-23عاماً وسط الطّوفان (مذكرات المناضلة الإيرانية الحاجة مرضيّة دباغ). ترجمة: دار الولاية للثقافة والإعلام، إعداد وتقديم: السيد محسن الكاظمي. ط2، دار كيتوس للثقافة والنشر، بيروت، 2016م.
2-الشهر الثالث في التقويم الهجري الشمسي الإيراني.
3-(م.ن)، ص98 - 106.
4-(م.ن)، ص108.
5-(م.ن)، ص 119.
6-(م.ن)، ص127.
7-(م.ن)، ص151-153.
8-(م.ن)، ص163-172.
9-(م.ن)، ص258.
10-صحيفة الإمام، ج7، ص253. من خطابه في ذكرى ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ويوم المرأة. 20 جمادى الثانية 1399هـ.ق.
المصدر:مجلة بقية الله