آية الله جوادي الآملي
الأمور القابلةُ للتوكيل والنيابة وحدودُ الولاية
في الإسلام تنقسم مسائلُ المجتمع إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: المسائل الشخصية
الفئة الثانية: المسائل الاجتماعية التي للمجتمع حق التصرف والتدخل فيها.
الفئة الثالثة: المسائل التي يرجع القرار فيها إلى مقام الولاية بحيث لا يكون للفرد والمجتمع أيُّ حق بالتدخل والتصرف فيها.
ولا شك أن أفراد المجتمع مثلما أنهم يملكون حق التدخل والتصرف المباشر في الفئة الأولى والثانية فإنهم يتمتعون بحق إعمال النظر بنحو التوكيل والاستنابة.
وكمثال على ذلك، فإن أهل المدينة يستطيعون أن يعيّنوا ممثلاً عنهم لينظّمَ أمور منطقتهم لأن هذا يرتبط بأهله.
وبالطبع فإن هذا يكون عندما يتفق الجميع في توكيل أو استنابة الشخص أو الأشخاص، وإلاّ فإن رأي الأكثرية الزائدة عن النصف مقابل الأقلية الناقصة عن النصف فاقدُ للحجية، وإن كان بناءُ العقلاء عليه إلا إذا أُحرزتِ الموافقة عليه من قبل الشرع.
إضافة إلى هذا ففي مثل هذا الشكل من المسائل لو حصل اتفاق الجميع فإن الوكالة أو النيابة لن تكون مشروعة لأكثر من عدة لحظات، لأنه في كل يوم هناك عدة من الأشخاص يبلغون سن التكليف، وببلوغهم، لن يكون رأي الوالد مجزياً عنهم إلا إذا أعطى لكل واحد منهم (البالغون الجدد) رأياً مشابهاً للباقين.
فالوكالة والنيابة في الأمور الاجتماعية، بصرف النظر عن جميع الإشكالات الفقهية، لا يمكن إجراؤها مطلقاً في الفئة الثالثة من المسائل الإجتماعية التي يعد التصرف فيها خارجاً عن اختيار الناس. لأن النيابة والوكالة إنما تكون في موردٍ يكون الموكِلُ أو المنوبُ عنه قادراً بنفسه على أداء العمل. والحال أنَّ التدخلَ في هذه الفئة من المسائل الإجتماعية مختص بمقام الولاية، وإن كانت حدود ولاية الحاكم الإسلامي لا تختص بالموارد الخارجة عن تصرف وتدخل الأشخاص. والدليل على هذا الأمر الآيةُ الكريمة: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ (الأحزاب:16).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى من المؤمنين في الأمور التي يقدرون على التصرف فيها. فالأولوية المذكورة في هذه الآية مثلما جاء في الآية الكريمة: ﴿أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ﴾ (الأحزاب: 6) هي أولوية تعيينية لا تفضيلية.
* نماذج من المسائل المختصة بمقام الولاية
يوجد العديد من الشؤون الإسلامية الأصيلة والمسائل الاجتماعية المهمة التي يعد التدخل فيها مختصاً بمقام الولاية وخارجاً عن صلاحية الفرد أو المجتمع.
وهنا نذكر نماذج من هذه المسائل. بعضها يرتبط بالأحكام وبعضها بالأحوال.
1- رؤية الأهلّة: عندما لا تكون رؤية القمر والاستهلال أو شهادة العدلين ميسورة للجميع، فإن الحكم ببداية شهر رمضان المبارك أو شهر شوال يعد خارجاً عن اختيار الفرد أو المجتمع، لأنه كذلك فإنه لا يقبل التوكيل والاستنابة، أي أن الناس لا يمكنهم أن يضعوا مثلاً مرجع التقليد نائباً أو وكيلاً عنهم لكي يحكم ببداية الشهر. ومن جانب آخر، فإن تعيين هذه المسألة خاصة عندما يدور الأمر بين آخر شهر رمضان وأول شهر شوال ويكون مهماً عند الناس وحساساً لأن الأمر يتردد ما بين وجوب صوم اليوم وحرمة الصوم في يوم العيد. فالشخص الوحيد الذي يستطيع أن ينجي الناس من التردد ما بين المحذورين هو مقام رسمي يحدد من قبل الشرع وبحكمه يضع حداً للهرج والمرج.
2-الوقوف في الموقفين: في مسألة الحج، يحتاج درك الموقفين في الأيام المعنية لقوافل الحجاج المليونية إلى مرجع يشخص جهة تعيين أيام الوقوف في عرفات ومنى، وهذه المسألة أهم بدرجات وأكثر حساسية من موضوع شهر رمضان، لأن إمكانية السفر والاحتياط للصائم قائمة، أما في الحج فلا يمكن للعدد الكبير من الحجاج الاحتياط والتردد ما بين عرفات ومنى. ففي هذا المورد لا يقع تعيين الانطلاق والانتهاء من التحرك على عاتق فرد أو أفراد من المجتمع، ولا بدَّ من الرجوع إلى مقام رسمي مشخص، يعلم مِن حُكمهِ أوَّلُ الشَّهر.
3- الحدود الإلهية والتعزيرات: إن إقامة الحدود، وإجراء التعزيرات، وأخذ الضرائب الحكومية وأمثالها ليست من حق الأفراد ولا المجتمع.
فلا يوجد فرد من الأفراد يحق له التدخل في هذه الأمور، لأن هذا يستلزم الترجيحَ بلا مرجح، ولا الجميع معاً يحق لهم ذلك، لأن هذا يُستتبع بالهرج والمرج وحيث لم يكن من حق الناس فلا يقبل الاستنابة والتوكيل. فالشخص الوحيد الذي عليه القيام بهذه الأمور هو الحاكم الذي يُعيَّنُ من قبل الله تعالى.
وفي جملة من الروايات أُعطي الحاكم المسلم ضمن إثبات هذا المطلب حق العفو في الحدود وذلك في ظروف خاصة مثل تثبيت أصل الجرم أيضاً.
4- من لا ولي لهم: كالغُيَّب والقُصَّر الذين ليس لهم ولي ولا وصي خاص. ففي هذا المقام لا يحق للأفراد أو المجتمع التدخل في شؤونهم. ومن هذا القبيل أيضاً الأموات الذين ليس لهم ولي أو وارث أو وصي، ولم يحدد ميراثهم أو دينهم، ففي جميع هذه الموارد يجب أن يكون هناك مقام رسمي يتعهَّدُ بالإشراف عليها.
5-الأنفال: الأموال التي توجد في المجتمع الإسلامي على ثلاثة أقسام:
1- قسم يتعلق بالأفراد والأشخاص كالذي يحصل من خلال الكسب.
2-قسم عام يتعلق بالمجتمع الإسلامي كبعض الغنائم التي يطلق عليها عنوان الفيء.
3-الأموال التي يطلق عليها عنوان الأنفال وهي ليست للأفراد ولا المجتمع، بل تتعلق بولي المسلمين، أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، والعترة الطاهرة عليهم آلاف التحية والثناء. فهذا القسم من الأموال الذي يؤمن قسطاً مهماً من اقتصاد الدولة، بما أنه لا يتعلق بشخص أو مجتمع، فإنه خارج عن حدود تصرف الأفراد سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة أو بنحو التسبيب وأنما هو تابع للتصرفات المختصة بمقام الولاية.
6-الخمس وسهم الإمام: الخمس بنحو عام (وهو 20% من المخارج المقررة) والذي يشمل لسهم الإمام وسهم السادة هو قسم من المسائل المالية التي يجب على جميع الأفراد القادرين أداؤه. ﴿واعلموا إنما غنمتم من شيءٍ فانّ لله خمسَه وللرسول ولذي القربى...﴾ (الأنفال 1-4).
ففي هذا القسم ورغم أن أداءه يعد وظيفة الجميع، فإن الأفراد أو المجتمع لا حق لهم بالتدخل المباشر فيه، وبالنتيجة ليس لهم حق التدخل بنحو التوكيل والاستنابة. إذاً فالمرجع القانوني والشرعي الذي يقع على عاتقه جمع هذه الأموال والتصرف فيها هو المرجع الرسمي المسؤول عن الولاية على المجتمع.
7-المفلس والمحجور: أولئك الفقهاء الذي فككوا ما بين التفليس والحجر،، يرون أن الشخص في البداية يفلس ثم يحجر عليه. كان المفلس هو الذي يفقد رأس ماله ويبقى لديه مقدار من الفلوس (وهي الأموال البسيطة)، ففي هذه الحالة يبقى حق الدائنين متعلقاً بذمته، ويبقى له الحق في التصرف في الأموال التي بقيت لديه، بدون أن يكون لواحد من الدائنين هذا الحق، لأن حقهم متعلق بالذمة، والذمة غير العين الخارجية. ولكن إذا كان لدى الشخص دين مستوعب، فإن للدائن الحقَّ في الرجوع إلى الحاكم، وبعد المراجعة فإن الحاكم يأمر بالحجر. فينتقل حق الدائنين من الذمة إلى عين الأموال وهناك توزَّعُ الأموالُ عليهم.
لهذا فإن انتقال الدين من الذمة إلى العين والخارج تَعَبُّدٌ شرعي تعود مسؤوليته إلى الحاكم، كما أن هناك مواردَ ينتقل فيها الحق من العين إلى الذمة بعكس القضية السابقة، كما يحدث في الخمس. لأنه كسرٌ مشاع ويتعلق بالعين، وحينها فإن أي نوع من التصرف في بدون التخميس يكون حراماً. في هذه الموارد إذا لم يكن إعطاء الخمس كاملاً بمقدور الشخص يمكنه أن ينقل الدين من العين إلى الذمة. وغاية الأمر أن هذا الانتقال لا يحدث إلا بواسطة من يملك الحق في التصرف في مثل هذه الأموال، وهو ليس من الأفراد أو المجتمع، بل شخص مأذونٌ في التصرفِ في الأمور الحكومية والولائية.
المصدر: مجلة بقية الله