كيف نصنع التلميذ المتفوق؟

الثلاثاء 26 يونيو 2018 - 07:08 بتوقيت غرينتش
كيف نصنع التلميذ المتفوق؟

لا يخفى أنّ المقوّمات العلميّة والذهنيّة لطلّاب مدارسنا كانت، وما زالت، تفتقر إلى عنصرٍ جوهريّ في هذه الإشكاليّة، يكمن في فهم ماهيّة التفوّق الواقعيّ...

السيد عباس نورالدين

إذا كنّا نريد أن نبقى في عصر الذّكاء الاصطناعي ونحافظ على هويّتنا وثقافتنا، يجب أن نعيد النظر فيما نعرفه عن القدرات التي تمنحها المناهج الجديدة لإنسان الغد.. لا يبدو أنّنا منتبهون إلى التحوّلات النوعيّة، في الأمور التي يمكن لهذه المناهج أن تكسبها لطلّابها والتي تجعل أبناء مدارسنا يظهرون كأقزامٍ صغار.
لقد قرّر العالم منذ قرنين أن يكون عالم الآلة والتكنولوجيا. والذين التحقوا مبكرًا بهذه القافلة استطاعوا أن يحقّقوا لأنفسهم الكثير من الاستقلالية والازدهار. أمّا الذين عجزوا عن ذلك ولم يتّخذوا مسارًا آخر للتقدّم، فسرعان ما سقطوا في مستنقع التبعية. وهكذا برزت هوّة كبيرة بين نوعين من دول العالم!
ولم يمضِ زمنٌ طويل حتّى أصبحت هذه الهوّة التي فصلت بين الدول التكنولوجية وغيرها أكثر وخامةً، نظرًا لافتقاد الدول غير التكنولوجية لأدنى مقوّمات اللحاق. وإذا كنت تبحث عن العلّة الأولى لهذه المشكلة فلا تتطلّع إلى ما هو أبعد من النظام التعليميّ المدرسيّ.
لا ينسى الذين شاهدوا هذه الهوّة وهي تتّسع باطّراد، كيف أنّ طلاب الدول المتخلّفة كانوا يتحوّلون إلى مجرّد عمّال مهرة في مصانع الغرب، إن هم أجادوا المناهج، وفي أحسن الأحوال قد يشقّ بعض هؤلاء طريقًا خاصًّا للتفوّق لا يجد له في بلده فرصة للظهور.
لا يخفى أنّ المقوّمات العلميّة والذهنيّة لطلّاب مدارسنا كانت، وما زالت، تفتقر إلى عنصرٍ جوهريّ في هذه الإشكاليّة، يكمن في فهم ماهيّة التفوّق الواقعيّ. فالصراع العالميّ بين الدول الغنيّة والدول الفقيرة، لم يكن يومًا قضيّة حقيقيّة تتم مناقشتها في المناهج الدراسيّة، التي يُفترض بها أن تعمل على رأب هذا الصدع وردم تلك الهوّة. وهذا هو أوّل الخيط.
حين وضعت الدُّول المستقلّة رُؤاها للمستقبل، نظرت إلى المدرسة باعتبار إنّها الوسيلة الأولى للسير نحوه. وقد تمّ تحديد مهمّة المناهج التعليميّة بضرورة ترجمة تلك التطلّعات في قوالب إعداد الفرد القادر على تحقيقها.
وفي ظلّ ضياع الرُّؤى المستقبليّة للدّول المتخلّفة، ستُصبح مدارسها مجرّد أداة لتحقيق إملاءات الدّول المهيمنة. هذه الدول التي تجد ألف طريقة للنفوذ إلى مؤسّساتها التعليميّة وإبقاء حالة التبعيّة والتخلّف فيها.
لذلك يجب أن نطرح هذا السّؤال على كلّ مؤمنٍ بدور المدرسة في إنقاذ الأوطان وازدهارها وتقدّمها، وهو:
ما هو إنسان الغد الذي نريد صناعته، ليكون عاملًا أساسيًّا لتحقيق الاستقلال الواقعيّ والنمط السليم للعيش؟
وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نطرح مثل هذه الأسئلة وهي:
ما هي مقوّمات صناعة هذه الشخصيّة، التي تستطيع أن تنقذ بلادها من براثن السيطرة الغربيّة؟
وكيف يمكن أن نقنع أصحاب القرار بضرورة إعادة النظر في المناهج التي يطبّقونها، دون أدنى تأمّل في تأثيراتها النفسيّة والمعنويّة على مستقبل طلّابهم ومجتمعاتهم؟
إنّ بعض المعطيات التي نواجهها من حينٍ إلى آخر تبدو مقلقة جدًّا، مثلما أظهرته بعض الإحصاءات، بأنّ أغلبية الطلّاب المتفوّقين في مدارسنا تتوق لإكمال الدراسة في أمريكا! وأنّ العديد من هؤلاء لا يمانع بالبقاء والعيش فيها إذا وجد فرصة عمل مناسبة!
فهل هذا هو الإنسان الذي نبذل من أجل بنائه كل هذه الجهود والأموال؟
إنّ صناعة الشخصيّة المتفوّقة هي التحدّي الأكبر الذي يواجه مدارس اليوم، نظرًا لحجم التحوّلات التي تجري على قدمٍ وساق في مختلف ميادين العمل والإنتاج. وما لم نعمل على صناعة التلميذ المتفوّق، الذي يدرك التحدّيات الاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية والمصيرية، فمن الصعب أن نقدّم لمجتمعاتنا الطاقات اللازمة لتحريرها وإنقاذها.
تعترف المراكز المعنيّة بالتعليم بصعوبة مواكبة هذه التطوّرات على مستوى إعداد المناهج، وتتعالى النداءات المطالبة بالنجدة. ففي عالم اليوم والغد، ستكون الغلبة للمتفوّقين، الذين يستطيعون فهم تعقيدات الحياة والمهن. ولكن، ما الذي يمكن القيام به في هذا المجال؟
إنّ الخطوة الأولى هنا تكمن في فهمنا واستيعابنا لقضيّة التفوّق، لأنّ الخطأ في هذا المجال ستكون له عواقب كارثيّة، حيث ننجرّ أكثر، ونجرّ معنا أبناءنا ليكونوا مجرّد أدوات أو عبيد آلة الغرب المتوحّشة. وبعبارةٍ أخرى، إنّ التعريف السائد في الفكر الغربيّ التربويّ للتفوّق والذي تتبنّاه الغالبيّة الساحقة من أصحاب القرار في مدارسنا، هو التعريف الذي ينبع من رؤية ماديّة استعلائيّة للحياة والأرض والعمل والمصير. وفي ظلّ هذا التعريف سيكون المتفوّق هو ذاك الذي يستطيع أن يتناغم مع هذه الآلة العملاقة التي بناها الغرب على مدى العقود السالفة.
ومن المعروف أنّ بناء هذه الآلة التكنولوجيّة، قد سلك مسارًا واحدًا بدأ من نقطة محدّدة ومن ثمّ تكامل وتعاظم في بيئة خاصّة حتّى وصل إلى ما وصل إليه اليوم. وها هو يتّجه نحو عصر نهاية المادّيّة، أو كما يحبّ الماديّون أن يُطلقوا عليه عصر أوج الماديّة الذي سيتمثّل في الذكاء الاصطناعيّ.

إنّه مسارٌ واحد، وإن كان شديد التعقيد، ولا بدّ لأي طالب يريد أن يكون فاعلًا ورقمًا صعبًا فيه، أن يمسك بزمامه منذ بداياته وحتى نهاياته. وبسبب ذلك يصعب على معدّي البرامج المدرسيّة أن يفهموه. لهذا تراهم يلجأون إلى التقليد الأعمى.
إنّ معظم العاملين في مجال التخطيط التعليميّ والتربويّ لا يدركون طبيعة مخرجات هذه المناهج التي يتهافتون على استقدامها واستخدامها في مدراسنا. ومع حجم الشهادات والامتيازات الأكاديميّة، لا يبدو لأصحاب القرار أي فرصة في تمييز الغث من السمين ومعرفة واقع القضيّة.
لهذا، فإنّنا بأمس الحاجة إلى إعادة النظر في مقوّمات التفوّق في الشخصية، والانتباه إلى أنّ التقليد الدقيق والحاذق للغرب لا يمت إلى التفوّق بصلة، بل هو النقيض التام له.

المصدر: مركز باء للدراسات