من الآداب القلبيّة المهمّة للصلاة وغيرها من العبادات، الحفاظُ عليها من التصرّفات الشيطانيّة. وهذا من أمّهات الآداب القلبيّة، والقيام به من عظائم الأمور وأهمّ الدقائق. ولعلّ الآية الشريفة في وصف المؤمنين ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(المعارج: 34) تشير إلى جميع مراتب الحفظ التي تكون إحداها، بل أهمّها، الحفاظ عليها من تصرّفات الشيطان.
المعارف الإلهيّة غذاء الأرواح
وتفصيل هذا الإجمال، أنّ من الواضح عند أصحاب المعرفة وأرباب القلوب أنّه كما أنّ للأبدان غذاءً جسمانياً تتغذّى به، ولا بدّ من أن يكون الغذاء مناسباً لحالها وموافقاً لشأنها حتّى تتيسّر لها التربية الجسمانية، كذلك فإنّ للقلوب والأرواح غذاءً لا بدّ من أن يكون مناسباً لحال كلّ منها وموافقاً لنشأتها كي تتربّى به وتتغذّى منه وتنمو نموّاً معنويّاً وتترقّى باطنيّاً. والغذاء المناسب لنشأة الأرواح هو المعارف الإلهيّة، وتغذية القلوب تُستمدّ من الفضائل والمناسك الإلهيّة.
وليُعلم أنّ كلّاً من هذه الأغذية إذا خلص من تصرّف الشيطان، وأُعدّ على يد الولاية للرسول الخاتم ووليّ الله الأعظم صلوات الله عليهما وآلهما تتغذّى الروح والقلب منه، وينالان الكمال اللائق بالإنسانيّة، ويعرجان معراج القلوب إلى الله. ولا يحصل الخلاص من تصرّف الشيطان الذي هو مقدّمة للإخلاص بحقيقته إلّا أن يكون السالك في سلوكه طالباً لله، وواضعاً حبّ النفس وعبادتها الذي هو منشأ المفاسد كلها وأمُّ الأمراض الباطنية تحت قدميه، وهذا لا يتيسّر بتمام معناه في غير الإنسان الكامل وبتبعيّته خُلَّص أوليائه، وأما سائر الناس فغير ميسّر لهم هذا الخلاص. ولكن على السالك ألّا ييأس من الألطاف الباطنيّة [المعنويّة] لله سبحانه، فإنّ اليأس من روح الله رأس كل برودة وفتور، ومن أعظم الكبائر.
تخليص الأعمال من تصرّف الشيطان
والذي يمكِّن من الإخلاص لصنف الرعايا هو أيضاً قرّة العين لأهل المعرفة، فعلى سالك طريق الآخرة لزوماً أن يخلّص معارفه ومناسكه من تصرّف الشيطان والنفس الأمّارة، مهما بلغ من الجهد، وأن يغوص في حركاته الباطنيّة، وتغذياته الروحيّة، ولا يغفل عن حيَل النفس الأمارة والشيطان، وأن يسيء الظنّ الكامل بجميع حركاته وأفعاله، ولا يخلّي نفسه على رسلها، فربّما تتغلّب على الإنسان وتصرعه إذا تسامح معها، وتسوقه إلى الهلاك والفناء؛ لأنّ الأغذية الروحيّة إذا لم تكن خالصة من تصرّف الشيطان؛ يحصل لها النقصان الفاحش، ولعلّها تجعل صاحبها سالكاً في مسلك الشياطين والبهائم والسباع.
رياضات تجعل الباطن أظلم
وقد رأينا في أرباب الرياضات والسلوك أفراداً جعلت رياضاتهم واشتغالهم بتصفية النفس قلوبهم أكدر وباطنهم أظلم، وما جاءهم ذلك كلّه إلّا لأنّهم لم يتحفّظوا على سلوكهم المعنويّ الإلهيّ، ولم يهاجروا إلى الله، وكان سلوكهم العلميّ وارتياضهم بتصرّف الشيطان والنفس وإلى الشيطان والنفس.
وكذلك رأينا في بعض طلّاب العلوم النقليّة الشرعية أفراداً أثّر فيهم العلم الأثر السيّئ، وزاد في المفاسد الأخلاقية لهم، والعلم الذي لا بدّ من أن يكون موجباً للفلاح والنجاة لهم صار سبباً في هلاكهم، ودعاهم إلى الجهل والمماراة والاستطالة.
وكذلك في أهل العبادة والمناسك، والمواظبين على الآداب والسنن ربّما يوجد أشخاص قد جعلت العبادة والنسك -التي هي رأس مال إصلاح الأحوال والنفوس قلوبهم- كدرة ومظلمة، وحملتهم على العجب ورؤية النفس والكبر والغمز وسوء الظنّ في عباد الله. ومن المعلوم أنّ معجوناً هُيّئ وأُعدّ بيد العفريت الخبيث وبتصرّف النفس الطاغية لا يتولَّد منه إلّا الخلق الشيطانيّ، وحيث إنّ القلب يتغذّى من تلك الأغذية على أيّ حال، فتصير الأغذية صورة باطنيّة للنفس، فبعد أن يداوم عليها مدّة يصير الإنسان وليداً من مواليد الشيطان قد تربّى بيد تربيته، ونشأ ونما تحت تصرّفه، فإذا أغمضت عينه الملكية وانفتحت عينه الملكوتية يرى نفسه واحداً من الشياطين، فلا نتيجة في تلك الحال سوى الخسران ولا تغني عنه الحسرات والندامات شيئاً.
مسلك سالك طريق الآخرة
وسالك طريق الآخرة في كلّ مسلك من المسالك الدينيّة، وفي كلّ طريق من الطرق الإلهيّة، عليه:
أولاً: أنْ يواظب بكمال المواظبة والدقة على مراقبة حاله، كطبيب رفيق ورقيب شفيق، ويفتّش بالدقة عن عيوب سيره وسلوكه.
ثانياً: ألّا يغفل خلال هذه المراقبة والتفتيش عن التعوّذ بالذات المقدّسة للحقّ جلّ وعلا في خلواته والتضرُّع والاستكانة إلى جنابه الأقدس ذي الجلال.
اللّهمّ إنك تعلم ضعفنا ومسكنتنا، فأسألك بالخاصّة في جنابك أن تأخذ بيدنا نحن المتحيّرين في وادي الضلالة، إنك وليّ الهداية.
المصدر: مجلة بقية الله