بدءاً من رفعه شعار "أميركا أولاً"، مروراً بتعزيزه هذا الشعار على أرض الواقع، وبشكلٍ فاقعٍ وضاربٍ حرية التجارة، حين قرّر، أخيراً، فرض رسومٍ جمركيةٍ على واردات بلاده من الحديد والألمنيوم، وصولاً إلى مجيئه منذراً إلى قمة مجموعة الدول السبع الصناعية التي اختتمت قبل أيام في كيبيك، فانسحابه منها، .. لا يدلل هذا النهج للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على أنه سعيٌ إلى تحقيق مجد أميركا، بقدر ما يدلل على أن ثمة خللا تكوينيّا ما، تعانيه الدول الصناعية الكبرى. ويعد انسحابه من القمة، ورفضه توقيع بيانها الختامي، بمثابة النذير الأوضح على أن ذلك الخلل تحوَّل إلى شرخٍ ضرب هذه المجموعة التي كانت تسمى مجموعة الثماني، قبل تعليق عضوية روسيا فيها، فأصبحت مجموعة السبع. وحيث إن هذه المجموعة هي الرابط الأقوى الذي يجمع الدول الصناعية الكبرى، فإن فعل الرئيس الأميركي قد يكون بداية أزمة قد تعصف بهذه الدول، وتكون تجليّاً لأزمةٍ شبيهة بالأزمة المالية التي عصفت بها سنة 2008.
في العام 2009، وبمناسبة مرور سنة على الأزمة المالية العالمية التي ضربت الولايات المتحدة وعددا كبيرا من الدول الصناعية حول العالم، كتب الكاتب ومخرج الأفلام الوثائقية الأميركي الراحل، داني سكتشتر، مقالة بعنوان: "ذكرى سنوية سعيدة أيتها الأزمة المالية: لم ينته الأمر بعد"، متوقعاً، كما فعل كتاب ومحللون اقتصاديون غيره، تكرارها قريباً. وحيث إن الأزمة لم تتكرّر وفق ما توقعه الكاتب، والمعطيات التي ساقها، إلا أنه يمكن لنهج ترامب الاقتصادي والسياسي أن يجعلها تتكرّر، وتتبدّى في أوجه تختلف عن التي تبدّت بها سنة 2008. وكتب الكاتب إن الأزمة تبقى ماثلة، ما دام المسؤولون لا يلتفتون إلى مطالب سياسيين ومحللين اقتصاديين وصحافيين وأكاديميين بضرورة إجراء إصلاحات مالية مناسبة، واتباع نُظُم جديدة في التعامل المالي.
"صرَّح ترامب بما يوحي أنه ينحو إلى فرض سياساتٍ حمائيةٍ مع الدول الأوروبية، حين قال: استُغِلَّت الولايات المتحدة عقودا وعقودا"
وجاء في مقالة سكتشتر أن الأزمة لم تكن أزمة رهن عقاري، بل أزمة ثقة، والجميع ضالعون فيها. أما الآن، وبعد عقد على تلك الأزمة، فبدا واضحاً أن الثقة معدومة بين الشركاء الاقتصاديين الكبار، وهو ما أكده وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، بعد انسحاب ترامب من قمة كيبيك، حيث قال: "دمَّر ترامب الثقة بين بلاده وبين أوروبا". ومن المحتمل أن كلام الوزير الألماني جاء بعد تمحيص كلام ترامب، حين برّر أن فرض الرسوم الجمركية يعود إلى اعتبارات الأمن القومي الأميركي، فهل يرى ترامب في حلفائه ذلك التهديد؟ لا بد أنه يرى ذلك، فهو لا يرى سوى مصلحة بلاده التي أرادها أن تكون أولاً، من دون مراعاة لمصالح الآخرين.
وفي العودة إلى أزمة 2008، رأى سكتشتر أن الأزمة لم تعد مالية، فحسب، بل نتجت عنها أزمة اجتماعية، حين أوقفت الحكومات الاتحادية التقديمات، وقلصت خدماتها وبرامج الرعاية. أما هذه الأيام فيمكن أن يتسبب فرض ترامب الرسوم الجمركية بحدوث أزمةٍ بين بلاده والدول التي يطاولها القرار. وليس مستبعدا أن تلي تلك الأزمة أزمة أخلاقية، وهي المحمَّلة بلا أخلاقية تعامل ترامب مع قادة تلك الدول، وتوجيهه الإهانات إلى بعضهم، إضافة إلى انسحابه المهين من القمة، عبر تغريدة أطلقها على "تويتر". وعندما تتحول إلى أزمة أخلاقية، تعزّزها تغريدات ترامب الطائشة، يمكن توقع الأسوأ الذي قد لا يتوقف عند حربٍ تجارية بين الشركاء، بل يمكن أن تتخذ لها وجوها أكثر سخونة.
ولم يكن ينقص هذا الاضطراب الذي خيَّم على القمة سوى انعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون، على الطرف الآخر من الكوكب، والتي افْتُتحت واختُتمت متجانسة، على عكس عدم التجانس الذي أسبغه وجود ترامب في قمة كيبيك، ورفضه توقيع البيان الختامي، وافتعاله خلافاً مع رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، أظهر افتقار القمة إلى اللياقة، ثم انسحابه الذي قصم ظهرها. ويبتعد الرئيس الأميركي، شيئاً فشيئاً، عن شركائه متخذاً سياسات مُدمِّرة، أكثر منها خلافية، الآن عن شركائه في دول مجموعة السبع، وقبلها عن حلفائه في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حين وصفه، سنة 2016، عندما كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية، بأنه عتيق عفا عليه الزمن.
ويعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الذي وقعته بلاده، ودول أوروبية مع إيران، واحدة من السياسات المُدمِّرة التي يتبعها، نظراً لتبعاته على علاقة بلاده مع إيران، من جهة، وضربه إجماع الدول الأوروبية التي تكبدت المشقة للتوصل إليه، من جهة أخرى. مع العلم أن فرضه رسوماً جمركيةً على واردات بلاده من الحديد والألمنيوم من دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان يُعدُّ زعزعةً لإحدى ركائز التجارة العالمية الحرة التي سعت بلاده ذاتها إلى تطبيقها. إضافة إلى ذلك، صرَّح ترامب بما يوحي أنه ينحو إلى فرض سياساتٍ حمائيةٍ مع الدول الأوروبية، حين قال، قبل مغادرته كيبيك: "استُغِلَّت الولايات المتحدة عقودا وعقودا"، في حين، ومقابل تلك الحمائية، تتبنى دول مجموعة السبع سياسة التجارة الحرة، وإزالة الحواجز أمامها، ومنها الرسوم الجمركية.
مع ترامب يتحول كل شيء إلى هشٍّ، لا المبادئ التي يعول عليها الأوروبيون في علاقاتهم الخارجية لها وزن لديه، ولا المخاوف التي يرزح تحتها قادة هذه الدول يمكن أن تجد إلى مسامعه طريقاً، فروسيا التي يحاول الأوروبيون ترويضها يريد ترامب أن يترك حبل مغامراتها العسكرية على حدود القارة على الغارب، ومن دون حساب. وإيران التي باتت أقرب إلى الانضواء تحت جناح الأوروبيين، عبر الاتفاق النووي، والعقود التجارية، يُطلق ترامب خيول احتمال عودتها إلى العدائية، بانسحابه من الاتفاق النووي معها. وهنا لا يتثبت سوى كلام الرئيس الصيني، على هامش قمة شنغهاي، عن السياسيات التجارية الأميركية الأنانية وقصيرة النظر. والأنانية وقصر النظر في عرف السياسات الدولية هي شروع في الانعزال، ومن ثم التمترس لإطلاق السهام نحو الخارج.
المصدر:الصدارة نيوز