أمين أبو راشد
البيان الختامي لِقِمَّة الدول السبع في كندا، تنصَّل منه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهاجم رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو عبر التويتر واتهمه بالمراوغة والكذب، وطالب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بضرورة زيادة أوروبا من مساهماتها في تمويل موازنة “حلف الناتو”، مما استوجب رداً من ترودو ومن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إضافة الى موقف ميركل من سياساته غير المُستقرَّة، خاصة أن انقلاب ترامب على مقررات هذه القِمَّة، برَّره بعقلية تاجر الصفقات، أنه ضروري لتعزيز أوراق تفاوضه مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في سنغافورة!
مشكلة أوروبا مع سياسات ترامب بدأت مع انتخابه في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2016، وفي مطلع العام 2017 أوفد وزير الحرب “جيمس ماتيس” الى مقرّ حلف الناتو في بروكسل، على وقع التشكيك الأوروبي بمصداقيته في مواقفه من “الناتو” خلال حملاته الإنتخابية، وجاءت زيارة ماتيس كمحاولة لطمأنة الدول الأعضاء في الحلف، أكَّد خلالها دعم الرئيس بقوَّة لهذا التكتل، مع تمسُّك ترامب بمطلبه من الدول الأعضاء في الحلف، الإيفاء بالتزاماتهم على مستوى الإنفاق العسكري، وقد اعتبر مراقبون، أن هذه الزيارة لمقرّ “الناتو” يومذاك كانت تحمل ما يعتبرونه تراجعاً من ترامب عن مواقفه التي أطلقها خلال حملاته الإنتخابية، بأن هذا الحلف قد تجاوزه الزمن ويجب تعديل أنظمته لتتماشى مع شروط مواجهة الإرهاب، مع الإبقاء على شرط ترامب، أن الولايات المتحدة لن تدافع عن حلفائها الذين لا يساهمون بالتزاماتهم في تمويل “الناتو”.
بالفعل أوروبا بحاجة الى مواجهة الإرهاب (الإرهاب الذي تدعم أميركا بعضه وتُدرِّبه) وبات داخل عقر دار الدول الأوروبية، وانهارت بسببه على الأرض وبشكلٍ غير مُعلَن إتفاقية “شينغن”، التي كانت تُبِيح الحدود المفتوحة لِتنقُّل مواطني الدول الموقِّعة عليها، وانتشرت الشرطة على حدود كل دولة لمنع تدفُّق اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وبات كل مخيَّم لاجئين في أوروبا قنبلة موقوتة، لدرجة أن الرايات السوداء باتت تُرفع حتى في شوارع الدانمارك، وهنا السؤال: ماذا فعل “الناتو” لحماية أوروبا من الإرهاب، وما هي القيمة المُضافة لأميركا كدولة عُظمى في “الناتو” لحماية أوروبا؟
“الناتو” الذي تأسس في الولايات المتحدة عام 1949 لمواجهة الإتحاد السوفياتي وحماية أوروبا، قام بوجهه “حلف وارسو” الذي دام من العام 1955 وحتى انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991، وبالتالي فقد “الناتو” الغاية من إنشائه كحلف دفاعي عن أوروبا بعد نهاية “وارسو”، وغدت الدول الأوروبية – خاصة القريبة من روسيا- رأس الحربة الأميركية في استعراضات الحرب الباردة، هذه الحرب التي انقلبت الى ساخنة مع دول الشرق الأوسط عبر الأراضي التركية، حين قام أردوغان كحليف ضمن “الناتو” بابتزاز أوروبا مادياً عبر استخدام الإرهاب العائد من سوريا أداة تهديد وعلى مرأى من أميركا زعيمة “الناتو”.
وبما أن أهداف قيام “الناتو”، تتضمَّن ما هو مُعلَن وغير مُعلن، نعرض في عُجالة جدوى “الإستثمار الحربي الأوروبي” بحلفٍ جعل من الدول الأوروبية – وبعضها دول عُظمى وكُبرى – أدوات أميركية في خدمة الهيمنة الآحادية للولايات المتحدة لفترة طويلة من الوقت:
(1)في الأهداف المُعلنة لتأسيس “الناتو”، فرض احترام سيادة الدول الأعضاء واستقلالها، والعمل على تسوية النزاعات بينها باتباع الطرق السلمية، والدفاع عن أية دولة من دول الحلف عند تعرضها لأي لعدوان خارجي، وأن تتمّ تنمية التعاون على الصُعُد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين الدول الأعضاء.
وفي هذه الأهداف المُعلنة، لم تحصل أية مشاكل سيادية بين الدول الأوروبية تستوجب “هالة حماية أميركية” عبر “الناتو”، ولا حصلت نزاعات بين هذه الدول استلزمت تدخُّل الراعي الأميركي، وتنمية التعاون على كل المستويات حاصلة، دون الحاجة الى كل ترسانات أسلحة “الناتو” الراقدة على صدر أوروبا، خاصة بعد انتفاء لغة المُعسكرين الغربي والشرقي وبعد توحيد “الألمانيتين”.
مثال آخر تمثِّل بحدثٍ تم الإعلان عنه يوم أمس، باتفاق اليونان وجمهورية مقدونيا بعد صراعٍ دام 27 عاماً نتيجة اعتراض اليونان على إسم جارتها الشمالية، التي تسمي نفسها جمهورية مقدونيا والتي ولدت عقب انهيار جمهورية يوغسلافيا السابقة، وقد توصل الطرفان – بعد محادثات استمرت ربع قرن رافقتها مظاهرات واحتجاجات، الى هذا الإتفاق على تسوية الإسم ليُصبح “جمهورية مقدونيا الشمالية” كي لا يكون مماثلاً لمنطقة يونانية تحمل الإسم نفسه، مما يؤكد أن الخلافات الداخلية بين الدول الأوروبية يتمّ حلُّها بعيداً عن مظلَّة “الناتو”، تماماً كما يحصل بشأن الخلافات حول موقف موحَّد من الهجرة كالتي تحصل حالياً بين فرنسا وايطاليا.
(2)الأهداف غير المعلنة لهذا الحلف: قيام الولايات المتحدة بمحاولات احتواء دول أوروبا الغربية لمنع انضمام أيِّ منها للمعسكر الشرقي، وتشجيع قيام الحركات المناوئة للاتحاد السوفييتي، وتطويق السوفيات بالأحلاف والقواعد العسكرية وذلك بهدف منعهم من اكتساب مناطق نفوذ جديدة.
هذه الأهداف غير المُعلنة انتفت نهائياً بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وقيام روسيا الإتحادية التي تمكنت من كسر آحادية الهيمنة الأميركية على العالم وعبر “الناتو” في أوروبا، ونُعطي هنا مثالاً واحداً يختصر قُدرة روسيا على اجتذاب أوروبا لعلاقات أكثر من جيدة معها، أنه على خلفية استعادة روسيا لشبه جزيرة القُرم، قامت قيامة أوروبا التي تعتمد على روسيا بنسبة 40% من استهلاكها من الغاز، فهدَّد الرئيس فلاديمير بوتين بوقف إمدادات الغاز، وأمام عدسات الكاميرات كتب على أحد الأنابيب الناقلة للغاز الى أوروبا: “إبدأوا بتجميع الحَطَب” في إشارة الى عدم استغناء أوروبا خاصة في وسائل التدفئة والخدمة المنزلية عن الغاز الروسي يوماً واحداً.
المُعادلات انقلبت، والأحلاف تبدَّلت، وأوروبا المُسالمة “روسياً” غالبية شعوبها مُسالِمة أيضاً بعد حربين عالميتين، وهي اليوم ليست بحاجة لنعمة “الناتو” الذي يستنزف اقتصادها ويُسيء لعلاقاتها الخارجية، بل هي بحاجة الى تحالف “حدودي” فيما بينها لضبط ارتدادات الإرهاب الذي زرعته أميركا وصدَّرته تركيا الى أوروبا، وليست بحاجة لـ”كاوبوي” مُتقلِّب لا يُعتَدّ بمواقفه وبات نقمة على بلاده وعلى أوروبا والعالم..
المصدر: موقع المنار