أمين طاهر
مما لا شك فيه أن الاستعمار باعتباره ظاهرة تاريخية هو حالة إجرامية بحق الغير عن سبق إصرار وترصد لا يرى فيه إلا مادة استعمالية لحل المشاكل وتحقيق المصالح، وشكلت الصهيونية في فلسطين علامة فارقة فيه من حيث الوسائل والغايات مجسدة إجرام الاستعمار التقليدي ودهاء ومكر الاستعمار الجديد.
فمنذ لحظة انطلاقها ، روج مشروعها لعقيدة الخلاص للشعب اليهودي من الاضطهاد والقمع والقهر الذي مورس عليه لمئات السنين فكانت فلسطين جنة عدن، حيث تطلعوا للاستيلاء عليها عنوة واستباحة تاريخها وذاكرتها وتشريد شعبها ونهب مقدارته.
الإجرام الصهيوني في حق فلسطين بدأ مع إلغاء الانتداب البريطاني واستشرى مع حرب 1948 التي يختلف فيها الطرفان فالمحتل الدخيل يسميها حرب استقلال بينما ترتبط عند صاحب الأرض الشرعي بالنكبة ومأساة تأبى النسيان.
وباعتبارها حالة تاريخية فلم تكن نتاج غزو عسكري مارسته دولة بحق أخرى، وإنما كان تسربًا لشتات بشري مسلح ومدعوم استفاد من مباركة القوى الغربية ورعايتها، ويتضح تفرده بالأساس في دعائم ثلاثة بين النزعة الإجرامية للاستعمار الصهيوني.
الإحلال والتوطين:
الكيان الصهيوني جيب استيطاني خلق عمدًا لتوطين الجموع البشرية الفائضة عن الحاجة ومنحهم كل السبل الكفيلة باستقرارهم، وضمان عيشهم خاصة تملك الأراضي لبناء مستوطنات زراعية، بتوظيف العديد من الوسائل لتحقيق ذلك كاستخدام القوة لانتزاعها من ملاكها الأصليين أو بابتزازهم مستغلة جهلهم بالأمور القانونية المرتبطة بتوثيق الملكية.
كما تم سن العديد من التشريعات لمصادرة أملاك الفلسطيننين النازحين من أموال وعقارات وأراض زراعية، ومن أبرزها قانون أملاك الغائبين وقوانين استملاك الأراضي ومناطق الأمن لأغراض عسكرية ثم جرى بعد ذلك تحويلها إلى تجمعات استيطانية لتوطين اليهود الوافدين.
وكان لسلطات الانتداب البريطاني على فلسطين دور كبير في ذلك بالتغاضي عنه والسماح به، إيمانا منها بأن تشجيع الهجرة اليهودية نحو فلسطين يتطلب تقديم حوافز وامتيازات للمترددين في الهجرة وتخليص أوروبا من وجودهم غير المرغوب فيه.
ومع مرور الوقت تحولت هذه المستوطنات الزراعية إلى جيتوهات مسلحة ومحصنة أشبه ما يكون بقلاع عسكرية محاطة بتجمعات سكانية فلسطينية ما هيأ الأوضاع لتزايد الصدامات والنزاعات بين الطرفين.
الإبادة والتطهير العرقي
بنت الأيديولوجية الصهيونية تصورها العام لحل المعضلة اليهودية على ضرورة خلق المجال الحيوي للشعب اليهودي عبر الاستيلاء على فلسطين باعتبارها أرضًا مقدسة لشعب الله المختار، ورغم علمانيتها المتطرفة شكل استحضار الخطاب الديني التوراتي وسيلة لشرعنة الغصب والسلب تقول جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل اليابقة في هذا الصدد:
ولتحقيق هذه الغاية كان من اللازم تطهير هذه الأرض المقدسة كضرورة حتمية لبناء الدولة اليهودية الخالصة عرقيًا ودينيًا وحضاريًا، حيث ابتكر قادة الحركة الصهيونية أبشع الأساليب وأكثرها وحشية لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وإرغامهم على اللجوء والفرار بتشكيل مليشيات مسلحة من أشهرها الهاكانا والشتيرن وبالماخ، اتخذت من عقيدة التوحش والرعب وسيلة مهمة في إطار الحرب النفسية للترهيب والتأثير في نفسية سكان البلدات والقرى الفلسطينية.
ومن بين أبشع الأساليب التي استخدمت توظيف مكبرات الصوت والإذاعات ونشر المطويات لدعوة الفلسطيين إلى مغادرة أراضيهم وتوعدهم بالتصفية الجسدية إن رفضوا ذلك، ويذكر الكاتب اليهودي هاري ليفين في مذكراته أحد البيانات التي أذيعت خلال حرب 1948 من مكبرات الصوت باللغة العربية:
"ارحموا زوجاتكم وأطفالكم واخرجوا من حمام الدم هذا… اخرجوا من طرق أريحا الذي ما زال وإن مكثتم فإنكم بذلك تجلبون على أنفسكم الكارثة."
ولقد مارست هذه المليشيات إرهابًا منظمًا وجرائم بحق الإنسانية تتواضع معها ممارسات النظام النازي بحق اليهود ، تمثلت في الإبادة الجماعية حسب القانون لقرى بأكملها مثل مذبحة دير ياسين ومجزرة الدوايمة ومجزرة طنطورة واعتقال الناجين وتعذيبهم حتى الموت.
كما استخدمت أساليب وحشية كالتصفية الجسدية والاغتصاب والقصف العشوائي ونسف القرى والمدن وزراعة الألغام بين الأنقاض لمنع عودة الفلسطينيين إلى ديارهم بل وتسميم مياه الشرب بجراثيم التيفوئيد للقضاء على أكبر عدد ممكن من السكان.
ومع اكتمال خطط التطهير العرقي كان أكثر من نصف السكان الأصليين أي ما يقارب 800 ألف نسمة قد جرى اقتلاعهم وطردهم قسريًّا، ويعيش قرابة نصف الشعب الفلسطيني في الشتات اليوم، كما دمرت 531 قرية بالكامل و11 حيًا مدنيًا واختفت العديد من المدن الفلسطينية من الخريطة.
وهول المأساة لا يقتصر على ذلك بل يتسع نطاقه ليشمل تزوير التاريخ وذاكرة فلسطين الحية وإعادة كتابته من منطلق صهيوني استعماري صرف يلغي حقوق السكان الأصليين في الوجود بأرض أجدادهم ويوجد لنفسه التبريرات لشرعنة ممارساتها الإجرامية.
سرقة أمة وتزوير التاريخ
لتسهيل احتلال أرض فلسطين وإضفاء طابع الشرعية على الممارسات الارهابية، عمدت الصهيونية إلى اختلاق العديد من الأكاذيب والأساطير لتزوير التاريخ، وإيجاد المبررات للدفاع عن نفسها والظهور بمظهر الضحية واستجداء التعاطف والشفقة.
فبُرر الاستيلاء على فلسطين بأسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض وبالحق التاريخي، حيث تدعي الأدبيات الصهيونية التاريخية أن أرض فلسطين كانت قفارا تحن إلى أبنائها اليهود المهجرين عنها، وأن الفلسطينيين أصحاب 13 قرنًا من الوجود هم قبائل بدوية فرت من بطش محمد علي في ثلاثينيات القرن 19 وينبغي طردهم بالقوة عنها متناسية أن المطالبة بالحق التاريخي غير موجود في القانون الدولي، كما روجت أكاذيب أخرى للتنصل من مسؤوليتها التاريخية في سرقة أملاك الفلسطينين مدعية أنهم قاموا ببيعها طوعًا، وذلك بهدف نسف حق العودة، والمؤسف في الأمر أن بعض العرب إلى حد الآن لا يزالون يصدقون هذه الأكذوبة الواهية.
ولفرض الأمر الواقع ومسح الهوية القومية والدينية لفلسطين وإلغاء وجودها من الذاكرة التاريخية،جرت عملية واسعة النطاق لإعادة صياغة التاريخ والتراث لتتوافق مع الرؤى الصهيونية بتهويد أسماء المدن والقرى العربية وعبرنة معالمها الأثرية وتخريب المساجد والكنائس وتدنيس المقدسات الدينية.
وإذا كانت دولة الكيان لا زالت تقتات على خطاب المظلومية مما جرى من أهوال ضد مواطنيها في هولوكوست النازيين، فإن مما مارسته من سادية ضد الشعب من إبادة وتطهير عرقي أفظع بكثير، يزيد من وطأته نجاحها في شطب تفاصيله من الذاكرة العالمية ومحوه من ضمير العالم الأخلاقي وهو أقسى أنواع العدوان والقهر المنقطع النظير.
المصدر:ساسة بوست