الشيخ محمد توفيق المقداد
قال الله تعالى في محكم كتابه (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا...).
هذه الآية التي تشير إلى حادثة الإسراء والمعراج التي اختص الله نبيه محمداً (ص) بها دون سائر الأنبياء عليهم السلام، ليشير بذلك إلى مكانته الخاصة بينهم خصوصاً أنه قد صلى بهم جماعة في المسجد الأقصى ثم بدأت رحلة معراجه إلى السماء.
ولا شك أن للمسجد الأقصى مكانة خاصة في قلوب المسلمين جميعاً لكونه انتهاء مسرى النبي (ص) ومبدأ عروجه إلى السماء، ولأنه كان القبلة الأولى التي صلى اليها المسلمون في زمن الدعوة الاسلامية في بداية عهدها، ثم تحولت القبلة إلى الكعبة الشريفة بعد الهجرة إلى ا لمدينة.
والقدس عموماً تعتبر مدينة مقدسة لدى كل اصحاب الديانات السماوية لوجود آثار مهمة وجليلة لكل دين سماوي، ولذا يمكن أن نقول بأن القدس عاصمة الأرض لأن أغلب سكان العالم هم من أهل الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه عليهم السلام، وليست مختصة بأهل دين واحد كما يحاول اليهود أن يروجوا بأن القدس هي عاصمة دولتهم المزعومة.
فالقدس هي مدينة فلسطينية وعربية وإسلامية، وفيها بعض الأماكن المقدسة لدى أهل الديانات الأخرى التي أمرنا الله باحترامها واحترام أنبيائها ومقدساتها، والتاريخ الاسلامي في القدس يمتد عميقاً في الزمن، ولها في قلب كل مسلم مكانة مميزة لأنها ثالث الحرمين الشريفين، وإلى المسجد الأقصى يشد المسلمون الرحال لزيارتها، وقد كان هذا الإنجذاب إلى القدس قبل احتلالها كاملة من جانب العصابات الصهيونية في حرب حزيران سنة 1967، فتوقف المسلمون عن زيارتها، ففقد أهل القبلة بذلك معلماً من ومكاناً مقدساً من مقدساتهم.
وقد سعى الاحتلال الاسرائيلي لإثبات وجود هيكل النبي سليمان (ع) كما يزعمون وبانه كان موجوداً محل المسجد الأقصى، ولكنهم لم يعثروا على أي أثر ولو كان بسيطاً يثبت دعواهم الكاذبة والخادعة ليتخذوها دليلاً لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل مكانه، وقد تعرض المسجد بعد الاحتلال للحرق في محاولة ماكرة للتخلص منه، لكن أبناء القدس من المسلمين الغيارى قاموا بإطفاء الحريق الذي دمر جزءً من محتويات المسجد التاريخية ومنها المنبر المميز الذي كان فيه.
ومما يؤسف له أن الأمة الإسلامية لم تعمل كما يجب لتحرير فلسطين والقدس من رجس الاحتلال الصهيوني مع توفر الإمكانيات العسكرية والتقنية والبشرية، وذلك بسبب وقوع أغلب هذه الأنظمة تحت تأثير الولايات المتحدة الأمريكية "الشطيان الأكبر" بنظر الإمام الخميني المقدس، وهذا ما شجع الصهيونية على بناء المستوطنات في أحياء القدس العربية الإسلامية، وصاروا يهجرون المقدسيين بسبب وبدون سبب حتى يتمكنوا من جعل أغلبية سكان القدس من قطعان المستوطنين الذي يأتون بهم من كل دول العالم للعيش فيها.
وبسبب التخاذل العربي واللامبالاة من الدول الإسلامية غير العربية هو ما دفع بالإمام الخميني المقدس إلى إعلان (يوم القدس) الذي يصادف آخر يوم جمعة من كل شهر رمضان لاستنهاض الأمة الإسلامية بشعوبها وأنظمتها للدفاع عن القدس، لأنها القضية الوحيدة القادرة على جمع الأمة الإسلامية وتوحيدها لمكانتها الخاصة عند كل المسلمين.
لكن مما يؤسف له حقاً أن الكثير من الأنظمة العربية وغيرها التي تزعم أنها إسلامية أدارت ظهرها لهذا النداء، لا بل حاربته الكثير من الأنظمة المحمية من أمريكا كدول الخليج أو بعض الدول الإسلامية التي لها علاقات متبادلة دبلوماسية مع الكيان الغاصب كتركيا أو بعض الدول التي وقعت إتفاقيات ذل وعار معه مثل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية زمن ياسر عرفات وإلى الآن، وعملوا على طمس هذا اليوم بشتى الوسائل والسبل ومنعوا شعوبهم من التجاوب معه.
من كل ما سبق عمل الكيان الغاصب من خلال قياداته السياسية إلى أمريكا الاعتراف بأن القدس هي عاصمة الكيان الغاصب وأنها مدينة يهودية، وقد صدر قرار بهذا الشأن من سنوات عديدة من الكونغرس الأمريكي، إلا أن الرؤساء الأمريكيين لم يتجرأوا على الاعتراف خوفاً من ردات الفعل من جانب المسلمين، إلى أن وصل الأمر إلى الرئيس الحالي "دونالد ترامب" الوقح والمتعجرف واعترف بالقدس عاصمة للكيان ويريد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، على أمل أن تلتحق الدول في العالم وخاصة الأوروبية منها بأمريكا، إلا أن ذلك لم يحصل وبقي الاعتراف الأمريكي وحيداً فريداً، والذي شجع "ترامب" على هذه الخطوة هو الانقسام الحاصل بين دولنا الاسلامية والحروب المشتعلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال، فضلاً عن مشكلات أخرى يعاني منها عالمنا الإسلامي.
لكن مع كل المعاناة التي يعيشها العالم الاسلامي لم تتمكن من السكوت على هذه الفعلة الشنيعة فانتفض شعبنا الفلسطيني في الداخل، وتظاهر المسلمون في عدة بلدان واجتمعت الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، وانعقدت قمة اسلامية في تركيا كرد على ما حصل.
لذلك نحن نأمل أن يكون تصرف "ترامب" الأحمق والغبي سبباً من أسباب التوحد بين المسلمين للدفاع عن كل مقدساتهم، وخصوصاً "القدس الشريف" ، ونأمل أن يسعى العلماء والمخلصون من أبناء الأمة في طول عالمنا الاسلامي وعرضه الى رفع الصوت عالياً لإثارة الحمية في قلوب الشعوب الاسلامية للدفاع عن المسجد الأقصى والقدس وفلسطين عموماً لتحريرها من قطعان الشتات اليهودي الذي انزرع في قلب عالمنا من جانب قوى الاستعمار والاستكبار.
إن وحدة الأمة من خلال التعالي والتسامح ووقف الحروب الداخلية فيما بينها قادرة على إجبار أمريكا على سحب اعترافها من جهة، وقادرة على مواجهة هذا الكيان الغاصب، ونأمل أن يحصل ذلك في أقرب وقت ممكن، لأن القضية لم تعد تحتمل التأجيل أكثر من ذلك، لأن احتلال القدس والاعتراف الأمريكي بها كعاصمة للدولة الغاصبة هو تحدٍ صارخ ومفضوح لكل المسلمين، وعلى المسلمين دولاً وشعوباً أن يردوا على هذا التحدي بوحدتهم واجتماع كلمتهم لتحقيق ما قال الله في كتابه الكريم (إن هذه امتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدونِ).