حسن أبو هنية
لا تكف الولايات المتحدة الأميركية خصوصا والغرب عموما عن وصف المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية بالديمقراطية الحضاروية الوحيدة في المنطقة، ونعت مناهضيها بالدكتاتورية والبربرية والإرهاب، رغم إدراك الجميع أن دولة الأمر الواقع المسماة «إسرائيل» كيان كولونيالي استعماري قام على أسس إيديولوجية عرقية عنصرية إرهابوية تستند إلى غزو واحتلال الأرض وطرد وتطهير السكان، فإن الطبيعة اليهودية والكولونيالية للدولة لا تثير حفيظة الأميركيين ومعظم الأوروبيين، ولا تدفعهم إلى وصفها بالعنصرية والسلطوية فضلا عن نعتها بالإرهابية، ولا ويطالبونها بتفكيك جميع قوانينها العنصرية، والتوقف عن ممارسة الإرهاب.
إن المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في فلسطين لا تعدو عن كونها كيانا كولونياليا عنصريا إرهابيا، فهذا الكيان لا يكف عن ممارسة التمييز والإرهاب والقتل ضد الفلسطينيين بكافة الطرق والوسائل، وبذرائع شتى في مقدمتها «حق الدفاع» عن النفس، وبدون ذرائع قد تصل إلى محض التسلية والاستمتاع، كما حدث الإثنين الماضي بارتكاب مجزرة «العودة الكبرى»، التي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، حيث ارتفع عدد الشهداء إلى 64 شهيدا، وإصابة أكثر من 3 آلاف فلسطيني برصاص الاحتلال، وقد أصرت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة على أن قتل الفلسطينيين العزل حق إسرائيلي مشروع للدفاع عن النفس، وحملت حركة حماس المسؤولية، وهي حركة بالتصنيف الأميركي الإسرائيلي إرهابية، وتلك مفارقة لا تحتمل عندما تنقلب المعايير رأسا على عقب.
لا جدال أن ثمة معايير أميركية أوروبية دولية مزدوجة، تشير إلى استقالة أخلاقية في التعامل مع المسألة الفلسطينية، إذ تصور الصحافة الدولية والخطاب الرسمي الإسرائيلي رفض إسرائيل المتواصل لتبديل طبيعتها اليهودية العرقية التفوقية أو لتبديل سياساتها العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني، على أنه دفاع عن مبادئ إسرائيل «الديمقراطية» وعن شعب يهودي توقف اضهاده التاريخي لمجرد دخول الصهيونية على الخط حسب جوزيف مسعد، ولكن السبيل الوحيد لكي تكتسب هذه الأقوال أي قوة إنما هو في سياق الالتزام الدولي (الغربي) بالتفوقية اليهودية، حيث يعتبر اليهود كأوروبيين بيض يدافعون عن القيم والحضارة الأوروبية البيضاء ضد قطعان العرب البدائيين، فالحجر الأساس في الفكر التفوقي العرقي اليهودي، هو الالتزام بإنشاء دولة يهودية يكون لليهود فيها، كانوا «شعبا مختارا»، أم أوروبيين يحملون رسالة تمدينية ، أم مجموعة مضطهدة تاريخيا ينبغي تحريرها أيا يكن الثمن، حقوق تفوق حقوق الأغيار وكل ما يستتبع مثل هذا النظام التفوقي العرقي من عدة وعتاد، إن التفوقية اليهودية هي ما يجعل قضية إسرائيل بوصف هذه الدولة يهودية بدلا من أن تكون إسرائيلية، أمرا بالغ التقديس، لا يمكن تبديله، لأن ذلك سيكون شأنا غير عملي، وإن التزام هذه النزعة هو ما يجعل من عودة اللاجئين الفلسطينيين «خطرا ديموغرافيا يهدد الغالبية اليهودية في إسرائيل؛ وهي غالبية باتت كذلك تحديدا لأن الفلسطينيين الذين يسعون اليوم إلى العودة إلى أراضيهم وبيوتهم قد سبق أن طردوا منها أصلا، وأن ذلك الإلتزام هو الذي يواصل شرعنة معاملة الفلسطينيين داخل حدود 1948 كمواطنين من الدرجة الثالثة، وهو الذي يشرع استمرار الاحتلال صمام أمان أمام التهديدات الموجهة إلى إسرائيل كدولة عرقية تمييزية يهودية
. إن الطبيعة العنصرية للمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية لا تحتاج إلى البرهنة،وكانت الجمعية العامة للأمم القرار قد أصدرت عام 1975القرار رقم 3379 الذي ينص على أن «الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، وقد صوَّت لصالح القرار 73 دولة، بينما صوتت 35 دولة ضد، وامتنعت 32 دولة عن التصويت. إلا أن اللوبي الصهيوني ومن خلال نفوذه السياسي في الأمم المتحدة وبالتعاون مع حلفائه لا سيما أميركا، وخلال 16 سنة من العمل المستمر، استطاع إجبار الجمعية العامة وفي خطوة غير مسبوقة، على إلغاء القرار واستبداله بالقرار رقم 8646 نهاية 1991 حيث صوت لصالح الإلغاء 111 دولة، وعارضته 25 دولة، وامتنعت 13 دولة عن التصويت، وتغيبت 17 دولة عن الحضور، وجاء قرار الإلغاء في كلمات معدودة صاغها نائب وزير الخارجية الأميركي آنذاك لورنس إيغلبرغ؛ «تُقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة نبذ الحكم الوارد في قرارها رقم 3379.«
العنصرية ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي بادية للعيان، لكن تحيز الغرب عموما وأميركا خصوصا لا يتطلب تحقيقا، فعندما بعثت الأمينة التنفيذية لـ"الإسكوا» ريما خلف نص استقالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بعدما ضغط الأخير لسحب تقرير يقر علانية، للمرة الأولى أممياً، بأن إسرائيل تفرض نظام فصل عنصري على الفلسطينيين، قالت: "ليس خافياً علي ما تتعرض له الأمم المتحدة، وما تتعرض له أنت شخصياً، من ضغوط وتهديدات على يد دول من ذوات السطوة والنفوذ، بسبب إصدار تقرير الإسكوا (الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد). وأنا لا أستغرب أن تلجأ هذه الدول، التي تديرها اليوم حكومات قليلة الاكتراث بالقيم الدولية وحقوق الإنسان، إلى أساليب التخويف والتهديد حين تعجز عن الدفاع عن سياساتها وممارساتها المنتهكة للقانون."
لقد قامت المستعمرة الاستيطانية اليهودية في فلسطين على أسس عنصرية إرهابوية عنيفة، حيث انخرط اليهود بتشكيل عصابات منظمة، مارست كافة أشكال الإرهاب وأصناف القتل والجرائم والتطهير بحق الشعب الفلسطيني، وقد وصم الصهاينة بـ»الإرهابيين» من طرف الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية آنذاك، لكن تلك الصورة لن تصمد طويلا، حيث سيتحول وصم «الإرهاب» إلى الفلسطينيين من طرف الإمبراطورية البريطانية ثم الأميركية ، فضلا عن المستعمرة الاستيطانية إسرائيل، والتي أصبحت توصف أميركيا وأوروبيا بـ"الديمقراطية» الوحيدة في المنطقة، رغم تأكيداتها على هويتها العنصرية والعرقية دون مواربة تحت مبدأ «يهودية الدولة".
إذا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد وصف «إسرائيل» عقب مجزرة العودة بأنها «دولة إرهابية تقتل الأطفال»، إلا أن ذلك رغم أهميته الرمزية، لا يعدو عن كونه وصفا بلاغيا لا آثار عملية له، كما أن دول مجلس التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية لا تتفق مع وصف أردوغان، ربما تكون بوليفيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي صنفت الكيان الصهيوني تنظيما إرهابيا،حيث أدرجت بوليفيا الكيان الإسرائيلي على قائمتها للدول الإرهابية في يوليو/ تموز 2014 احتجاجاً على العدوان الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة آنذاك. تكشف الحالة الفلسطينية الإسرائيلية عن الطبيعة السياسية لمفهوم الإرهاب الذي يتجاوز المقاربات الابستمولوجية المعرفية، حيث يتحول مصطلح «الإرهاب» إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي ومفروض وغير مفترض، فسلطة القوة السيادية الانتقائية هي من تتحكم في تعريف ماهية الإرهاب ومادته، وتحدد هوية الإرهابي وكينونته، فالخطاب السياسي الغربي الاستشراقي والثقافوي عموما والصهيوني خصوصا يقوم على الربط بين الفلسطيني والعربي والمسلم و»الإرهاب» بحيث أصبحت مفاهيم «العروبة» و»الإسلام» تنطوي على صفة هوياتية جوهرانية ستاتيكية ترتبط دلاليا بالشر والفساد، وباتت الهوية محددا أساسيا في معرفة العمل الإرهابي، فسياسات واستراتيجيات مكافحة الإرهاب الأميركية والأوروبية والاسرائيلية أصبحت تحدد ماهية الإرهاب بهوية الفاعل وليس بذات الفعل الإرهابي.
خلاصة القول أن ما يحدد كيانا أو منظمة باعتبارها ديمقراطية أو دكتاتورية أو إرهابية ليس العمل بحد ذاته وإنما هوية الفاعل، كما هو شأن الإرهاب، فالإرهابي لا تحدد ماهيته بفعلة بل ذاته وانتمائه، فهوية الشخص أو الجماعة كإرهابي هي التي تؤدي إلى وصف عملياته بالإرهاب، كما بيّن مسعد؛ فالحالة الفلسطينية الصهيونية تثبت بأن الإرهاب يعمل بطريقة جدلية قوية ومتنقلة، فعلى صعيد الحجة، نقيض خطاب الإرهاب ليس إلا المادية التاريخية، وبعبارة أخرى، إنما هو التحليل التاريخي للقوى الاقتصادية والسياسية التي تملك سلطة تحويل مفاهيم موضوعية دون الحاجة إلى المنطق، بل من خلال سلطتها على فرض لامنطقها باعتباره منطقا.