التصرف الاهوج والارعن لهذه الادارة التي لم يمر على عمرها سوى عام وستة اشهر، ازاء مختلف القضايا الدولية، جعل اقرب حلفاء امريكا التقليديين في العالم وخاصة في اوروبا، يصابون بالحيرة والدهشة وحتى الشك في سلامة القوى العقلية لرئيس هذه الادارة ومن يحيطون به.
عنصرية وانعزالية الرئيس الامريكي دونالد ترامب تجسدت افضل تجسيد بشعاره الانتخابي الذي رفعه حول “امريكا اولا”، والتي وجدت طريقها للتطبيق عبر فرض حظر على مواطني عدد من الدول العربية والاسلامية من دخول امريكا، وبناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك، ووصف مواطني الدول الاخرى بإبشع النعوت، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ واتفاقية التجارة الحرة مع أوروبا وكندا.
في خضم موجة الانسحابات من الاتفاقيات الدولية، والمواقف العنصرية والانعزالية للرئيس الامريكي دونالد ترامب، تبرز هناك بعض القرارات اتخذها ترامب، اعتقادا منه ان الظروف اصبحت مؤاتية لاتخاذها وهي قرار نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس، وقرار الانسحاب من الاتفاق النووي بين ايران ومجموعة 5+1 بدون اي مبرر، وفرض عقوبات اقتصادية على قادة ومسؤولي حزب الله السياسيين.
ترامب اتخذ قرارته المتزامنة تلك على ضوء اعتقاده ان نتائج الحرب الطائفية التي اشعلتها امريكا في المنطقة بمساعدة “اسرائيل” والدول الخليجية الغنية على مدى اكثر من سبعة اعوام في سوريا والمنطقة، كانت كافية لاعطاب بوصلة الانسان العربي التي اخذت تشير، حسب اعتقاد ترامب الى “ايران” و“الشيعة”، بوصفهم “اعداء”، بينما اخذت الى “اسرائيل” بوصفها صديقا وحليفا للعرب “السنة” ضد “ايران الشيعية”.
الهدف الاساسي من وراء اتخاذ ترامب القرارات الثلاثة الاخيرة، كان من اجل تمهيد الارضية امام تنفيذ “صفقة القرن” وتصفية القضية الفلسطينية والى الابد. الا ان الرياح لم تأت كما يشتهي ترامب وصقور ادارته اصحاب العقول المتكلسة. فقرار السفارة كقرار الاتفاقية النووية وقرار فرض العقوبات على قيادة حزب الله، لم يجد ترامب من بين مختلف دول العالم من يؤيده فيها، سوى “اسرائيل” والسعودية والامارات والبحرين.
مسيرات العودة التي شهدتها غزة احتجاجا على نقل السفارة الامريكية واحياء ذكرى النكبة، واستشهاد اكثر من 100 شاب وطفل فلسطيني وجرح اكثر من 3000 اخرين خلال ايام قليلة، كلها اثبتت غباء ترامب وادارته التي فتحت حسابا على نتائج الحروب التي اشعلتها امريكا في المنطقة واستخدمت فيه وبشكل قذر السلاح الطائفي، فقد تبين وبشكل لا لبس فيه ان الفلسطينيين كانوا وما زالوا ينظرون الى “اسرائيل” بانها العدو الذي اغتصب ارضهم ومقدساتهم، والى الجمهورية الاسلامية في ايران، كبلد اسلامي كبير وقف ومازال الى جانبهم ودفع اثمانا باهظة لهذا الموقف.
اما قرار فرض العقوبات على القادة السياسيين في حزب الله، فانه قرار كان ارخص من الحبر الذي كتب به، فالجميع يعلم وفي مقدمتهم امريكا ان لااموال لقادة حزب الله في بنوك لبنان او العالم، وان القرار جاء فقط للانتقام من الانتصار الشعبي لذي حققه الحزب وحلفاؤه في الانتخابات البرلمانية ، كما جاء من اجل اثارة الفوضى داخل لبنان عبر تحريض الاحزاب اللبنانية الاخرى ضد حزب الله، وادخال هذا البلد الى نفق الفوضى، كما ادخلوا من قبل بلدان اخرى الى هذا النفق بذرائع مختلفة، وهو امر لم يندفع اليه اللبنانيون بعد التجربة المرة التي عاشوها ابان الحرب الاهلية، بالاضافة الى حرص حزب الله على تحصين الداخل اللبناني امام اي اختراق امريكي صهيوني عربي رجعي.
اما قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الذي كان من اكثر قرارات ترامب غباء، حيث كان يعتقد ان ايران سترد على الانسحاب بالانسحاب، الا ان القيادة الايرانية تمهلت ولم تنجر الى المكان الذي ارادت امريكا دفعها اليه، بعد ان وجدت تمسكا من الجانب الاوروبي بالاضافة الى الصين وروسيا بالاتفاق، لذلك امهلت ايران الاوروبيين اسابيع لتقديم ضمانات لها لحماية الشركات الاوروبية العاملة في ايران من العقوبات الامريكية، وهو ما اكدته اوروبا مرارا وتكرارا على لسان مسؤوليها.
ترامب الذي وقع في الفخ الذي نصبه لايران، بقي وحيدا في مواجهة طهران بعد ان تركته اوروبا واهانته، فاستنجد بنتنياهو من اجل استفزاز ايران، عبر الاعتداء على مستشاريها في سوريا، لدفع طهران للرد عبر ضرب “اسرائيل”، لينصب بعد ذلك مأتما على “اسرائيل” ويدعو بعدها الاوروبيين للمشاركة فيه بهدف التحريض على ايران.
لما فشل نتنياهو في استفزاز ايران التي ردت وبذكاء على عدوانه على سوريا بالطريقة التي اسكتت واهانته، بدا ترامب باطلاق التهديدات ضد الشركات الاوروبية العاملة في ايران، بطريقة استعلائية لا تقيم وزنا لمصالح القارة الاوروبية وكرامتها، وتعامل معها معاملة التابع، الامر الذي استفز الاوروبيين ودفعهم للوقوف وبحزم في وجه التعنت والصلف والعنجعية الامريكية، ولاول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
يرى الكثير من المراقبين للعلاقة بين ضفتي الاطلسي، في الموقف الاوروبي الحالي، بانه قد يشكل لحظة “صحوة” للقارة العجوز لكي تخرج من عباءة الامريكي المتغطرس والجشع والاستعلائي، بعد ان شعر ثلاثة من زعماء هذه القارة الكبار وهم الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون ورئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل، بالاهانة، عندما رفض ترامب حتى اطلاعهم عن موقفه الحقيقي من الاتفاق النووي حينما ذهبوا الى واشنطن لاقناعه بالبقاء في الاتفاق، حيث تعامل معهم كتابعين وليس قادة لاكبر دول في الاتحاد الاوروبي.
ان الاجتماع الاخير لقادة اوروبا في صوفيا وتاكيدهم على ضرورة الوقوف في وجه امريكا ورفض الاعتراف بها كشرطي اقتصادي على العالم، والاستعداد للقتال من اجل حماية مصالح اوروبا في ايران والعالم اجمع امام الهيمنة الامريكية، يعتبر منعطفا خطيرا في تاريخ العلاقة بين امريكا واوروبا.
ان المخططات التي تم الاعداد لها في الغرف المظلمة في امريكا وتل ابيب وبعض عواصم الدول الخليجية، ضد ايران وفلسطين محور المقاومة، لم ولن ترى النور، بل سترتد سلبا على مخططيها، وذلك بفضل حكمة وحنكة القيادة الايرانية، وبفضل انسجام وقوة محور المقاومة، وبفضل صمود الشعب الفلسطيني، وبفضل قوة الحق الذي تمثله القضية الفلسطينية.
منيب السائح
شفقنا
24-110