هل يمكن للمدرسة أن تصنع علماء دين؟

الإثنين 7 مايو 2018 - 04:43 بتوقيت غرينتش
هل يمكن للمدرسة أن تصنع علماء دين؟

بإمكان المدرسة أن تحقّق المعاجز ضمن الإمكانات المتاحة ،حيث أن الانطلاق من التراث العلمي الديني لإعداد مناهج مدرسية...

السيد عباس نورالدين

يدرك المتخصّصون في مجال العلوم الدينية أنّ تحصيل مستويات عالية من المعرفة والتخصّص والمهارات التعليمية أمرٌ ممكنٌ بسنواتٍ قليلة، وحتى دون شرط إنهاء المرحلة الثانوية. وفي الوقت نفسه لا يشك خبير متضلّع بما في هذه المعارف من تأثيرٍ عميق على مستوى صقل الشخصية وتقويتها وتوازنها؛ الأمر الذي نفتقد إليه كثيرًا في مدارس اليوم حيث العجز والانفكاك بين العلوم والتربية.
تصوّر لو أنّ مدارس اليوم استطاعت أن تقدّم للمجتمع أفرادًا يتمتّعون بحسٍّ عالٍ من المسؤوليّة والرّزانة والاندفاع والمشاركة والثقل المعنويّ والمهارات البيانية والاهتمام الواسع. وهنا نقول أنّه لا يوجد ما يمكن أن يحقّق هذه النتائج مثل الاشتغال والتخصّص في العلوم الدينية.
إنّ الأثر النفسي والمعنوي لدراسة المعارف الدينية والاشتغال بها، يبرز بقوّة ووضوح في التجربة، نظرًا لما تتمتّع به هذه المعارف من تراث وأطروحات يمكن أن تعزّز وعي الإنسان بذاته وبالمجتمع وبالآخرة وبالله خالق كل شيء؛ حيث يثمر هذا الوعي اهتمامًا وتحمّلًا ملفتًا للمسؤولية تجاه كل شيء؛ هذا بالطبع مع حفظ التوازن النفسي والاندفاع للمشاركة الفاعلة في الحياة.
لو استطاعت مدارس اليوم أن تزيد من قوّة ونوعية وعمق حضور المسائل التي يطرحها الدين ـ وخصوصًا في مجال معرفة الوجود والنفس ـ لحصلت على كل ما تحلم به على صعيد بناء الطلّاب وتمتين شخصيتهم وتوقيرها. فأثر المعرفة العميقة والواسعة في القلوب المستعدّة يشبه تأثير المطر المغيث الذي يهطل باستمرار على الأرض الخصبة.
نعلم أنّ دخول مادّة التربية الدينية إلى المناهج المدرسية، ما زال بالنسبة للكثيرين يشبه المعجزة التي تحقّقت بعد أزمنة العلمنة والجهل. وهناك من لا يزال يخوض معارك مستمرّة من أجل تطوير هذه المادّة وزيادة حضورها وسط هذا الكم الكبير الذي تفرضه المناهج المدرسية اليوم، وتفرض معه سلسلة من الاهتمامات السطحية التي لا تنتهي والانشغالات التي تملأ وقت الطالب.. ولا شك بأنّ إيصال مادّة التربية الدينية إلى مستوى تحقيق أهداف كبيرة كالتي ذكرنا سيكون بالنسبة لهؤلاء أشبه بالمستحيل! لكن، أين تكمن قضيّة الجهاد والنضال التربوي التعليمي إن لم تتوجّه إلى الأهداف المنشودة!
يمكن إعداد مناهج تعليمية قادرة على إيصال الطالب المدرسي إلى مستوًى معرفي متميّز إن استطعنا أن نراعي الأمور التالية:
1-القدرات الذهنية
2-القدرات المعنوية
3-البيئة المناسبة
ثمّ نضيف إليها حضور المعارف الدينية وفق رؤية منهجية دقيقة تراعي التدرّج واستعمال النص الديني والتواصل الفعّال مع تراثه الواسع. ولا شك بأنّ المخرجات المتوقّعة ستكون عبارة عن إعداد شخصية دينية عالمة تمتلك كل مقوّمات التخصّص العميق في العلوم الإسلامية وغيرها.
ولأجل تقوية القدرات الذهنية لا بد من الاهتمام بالمجالات التالية:
1-الذهنية العرفية
2-التحليل المنطقي
3-القدرة البيانية
ويمكن استخراج كل مستلزمات هذه المجالات من التراث الأصولي والمنطقي والفلسفي واللغوي المتوفّر بين أيدينا، وعرضها ضمن منهاجٍ دراسيّ يبدأ مع الطالب من السنوات الأولى في المدرسة.
فعلم الأصول حافل بالأبحاث التي تغذّي الفهم والذائقة العرفية التي هي شرطٌ أساسي في فهم النصوص الدينية المرتبطة بسلوكيات الإنسان وواجباته.
والأبحاث الفلسفية غنيّة بالمواد التي تنمّي المهارات التحليلية والقدرات المنطقية، التي يحتاج إليها الطالب لفهم واستيعاب الكثير من المعارف المرتبطة بالوجود والمصير. ومن الممكن استخراج منهاج كامل يؤدّي دورًا أساسيًّا في إثراء المخزون التصوّري للطالب، الأمر الذي يُعدّ شرطًا ضروريًّا للخوض في القضايا الكبرى والمعارف العميقة.
إنّ الانطلاق من التراث العلمي الديني لإعداد مناهج مدرسية، تمزج بين طرح القضايا ضمن تدرّج يراعي المراحل العمرية والاستعدادات الذهنية، وبين تحقيق المقدّمات الذهنية اللازمة ،يقع بالدرجة الأولى على عاتق المتخصّصين المتبحّرين في هذا التراث؛ هؤلاء الذين يتمتّعون بالذهنية التربوية المنهاجية، ويمتلكون الخبرة الواسعة في الأصول التي بُني عليه هذا التراث العظيم.
كما أنّ الاهتمام بالبناء المعنوي والقدرات الروحية يُعدّ شرطًا أساسيًّا للتفاعل الإيجابي مع التراث الديني. وأي خلل في هذا المجال يمكن أن يتسبّب بكوارث كبرى.. لأجل ذلك لا بدّ من العمل على جعل البيئة المدرسية بيئة مؤاتية لعملية تهذيب النفس وبنائها وتكريمها، الأمر الذي يواجه في مدرسة اليوم الكثير من العقبات. ولا يخفى أنّ المعارف الدينية تعتمد بدرجة كبيرة على صفاء الروح ونقاء القلب، لتثمر في نفس الإنسان فتضعه على طريق التكامل اللامتناهي.
كما أنّ وضع الطلاب في بيئة مناسبة مع التراث الديني هو أحد أهم عوامل نجاح التجربة التعليمية؛ مثلما يحدث في الحوزات الدينية التي يشعر فيها الطالب منذ اللحظة الأولى أنّه أصبح مسؤولًا عن العالم كلّه. وهناك يتواصل مع تاريخٍ عريق عابق بالتجارب والمشاريع والاهتمامات.
إنّ أحد أهم عناصر البيئة المناسبة للمعارف الدينية هو عنصر الهداية والتبليغ والدعوة إلى الله. ويمكن العمل على إيجاد هذا العنصر وتقوية حضوره في المدرسة عبر سلسلة من الوسائل والمشاريع المشوّقة، مثل ربط الطالب بمجتمعه وبالمجتمعات الأخرى، وحثّه على تحمّل مسؤولية محاورة الآخر وهدايته ودعوته إلى عالم القيم الدينية الرائع.