تكررت إعلانات «النصر» من قبل روسيا والنظام السوري بالقضاء على "داعش" مؤكدًة أنه تم طرد التنظيم من كامل الأراضي السورية خلال العام 2017. وفيما انكب النظام وحلفاؤه لحصد المكاسب السياسية والعسكرية، أخذ "داعش" يوجه ضربة تلو الأخرى لهذه الأطراف، منطلقًا من البادية السورية التي أزيح نحوها بتعمد من قبل النظام وحلفائه وخصومهم أيضًا، مشكلًا تحديًا جديدًا وهامًا لكافة الأطراف في الساحة السورية التي لا يمكن نفي رغبتها في دفع التنظيم نحو البادية كوسيلة لإلحاق الضرر بخصم كل منها.
الملجأ الأخير لـ(داعش) هو البادية السورية التي زج به نحوها بعد خسارته لمناطقه في الأراضى السورية؛ فقد حصر الآن في مناطق صحراوية متباعدة في الشرق السوري؛ ليتمركز في بادية البوكمال، وأجزاء من الشريط الحدودي السوري – العراقي، وفي عمق بادية تدمر بالقرب من مدينة السخنة، وكذلك في أطراف مدينة القريتين بالقرب من جبال القلمون، بالإضافة إلى بادية السويداء.
وينطلق التنظيم من هذه المناطق بعمليات عسكرية قوية تستهدف قوات النظام السوري في محطة (تي 2) النفطية، بل إن "داعش" تمكن من السيطرة على ثكنات عسكرية تابعة لقوات «حرس الحدود السورية»؛ فاتخذها مواقع عسكرية ينطلق منها بهجمات ضد النظام، حيث تعد المنطقة استراتيجية مفتوحة على الشريط الحدودي السوري – العراقي، ومفتوحة على منطقة السخنة التي تعد مركز العمليات الحالي للتنظيم، أما في بادية السويداء، حيث يتنشر "داعش" في جبل الصفا، على أطراف قرية طربا، فهذا التواجد يمكن التنظيم من تنفيذ عمليات خطف وطلب للفدية ضد سكان القرى الدرزية الواقعة غربًا.
وتقدر مصادر سورية أعداد عناصر "داعش" في البادية بعدة آلاف، يعتمد عليها التنظيم في هجماته، حيث يوجه من عمق البادية وأطرافها ضربات موجعة لقوات النظام والميليشيات الموالية له؛ مما يسبب خسائر شبه يومية، ومن بادية دير الزور الجنوبية القريبة من مدينتي البوكمال والميادين يشن «داعش» هجمات مباغتة على حواجز قوات النظام ونقاطه العسكرية.
كما ساهمت المساحات الواسعة للبادية، وهي تمتد من تخوم ريف دمشق، وريف حمص في الجنوب الغربي، حتى نهر الفرات في الشمال الغربي، والحدود العراقية جنوبًا، في منح (داعش) حرية كبيرة في الحركة؛ شكلت هذه الحرية ضغطًا كبيرًا على قوات النظام، وهددت الطرق الرئيسة، وأوصال مناطق سيطرة النظام في وسط وشرق سوريا بالتقطيع، فما يجري الآن في شرق سوريا يظهر أن التنظيم لم يعد يهتم بقضية السيطرة على الأرض بقدر ما يهتم بنصب الكمائن بغية إيقاع خسائر أكبر في صفوف قوات النظام.
يستشهد المحللون للتدليل على خيبة «إعلان النصر» على (داعش) باستمرار التنظيم في شنِّ هجمات قوية خاطفة، مستفيداً من البؤر، والإمكانات التي وُفرت له بالبادية السورية؛ فقد استفاد من إمداد عسكري عبر منطقتي (بئر مداد) و(الوعر)، والمساحة التي سيطر عليها التنظيم في محيط المحطة (تي 2).
هذا الواقع الجديد يظهر أن الهجمات الأخيرة لـ(داعش) تعتمد على تكتيك «حرب العصابات» في البادية السورية الممتدة حتى الحدود العراقية، ومن مواقعه في مثلث (حميمية – ريف الميادين – ريف البوكمال) التي شكلت نقطة انطلاق لهجمات كبدت النظام خسائر كبيرة جراء هذا التكتيك.
وقد اختارت المعارضة السورية في التنف عدم التحرك لقتال (داعش)، ما دام التنظيم يهاجم مناطق النظام والروس، يقول الإعلامي السوري المعارض «يونس السلامة»: «إن التنظيم عاد فعليًا للبادية السورية، وهو يتواجد بأعداد كبيرة شرق السويداء»، ويوضح لـ«ساسة بوست» أن «قوات النظام هي التي سهلت له الطريق؛ لوضع (داعش) كساتر بينها وبين الثوار في المناطق الشرقية الجنوبية لدمشق والسويداء، وحتى الآن لم يطلق النظام رصاصة تجاه التنظيم، مع العلم أنه لم تمر فترة قصيرة على معاركه مع الثوار في تلك المناطق التي جمع فيها كل ما أوتي من قوة وجنود».
كما أوقف التحالف الدولي بسوريا استهداف (داعش) في عمق البادية؛ بدليل مرور قوافل التنظيم أمام عين قوات «قاعدة التنف» العسكرية الأمريكية دون التحرك، وتتذرع هذه القوات بأن القوافل تمر من مناطق تخضع للنفوذ الروسي، أو على مقربة منها؛ حيث منعت الاتفاقيات التدخل في نفوذ الطرف الآخر، وحين أخبر التحالف الروس عبر الخط الساخن بين الطرفين عن وجود قوافل للتنظيم في مناطق نفوذهم، لم يحركوا ساكنًا.
في المحصلة، تؤدي المواقع الاستراتيجية التي تتميز بها البادية السورية دورها في توفير تحصين كبير لداعش؛ إذ من الصعب أن يتأثر خلال معركته مع خصومه بعمليات القصف الجوي، وتصعب السيطرة بريًا على المناطق التي يسيطر عليها.
عقب إقصاء فصائل المعارضة من جيوب العاصمة (دمشق)، أفسحت عدة جهات تقاتل في سوريا المجال أمام (داعش) للتوسع في البادية السورية، وتعزيز قواته لتحقيق أهداف مختلفة تبعًا لمصالح هذه الجهات.
وتشهد البادية صراعًا أمريكيًا روسيًا، زادت حدته بعد تهديد واشنطن بضرب النظام، فموسكو حملت الأمريكيين مسؤولية استعادة «داعش» لزمام المبادرة بعد تراجعه الكبير، فقال المتحدث باسم قاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري «أليكسندر إيفانوف»: إن «التنظيم المتشدد فقد التوازن بشكل كامل في الآونة الأخيرة، لكنه الآن يستعيد توازنه بشكل سريع بعد تدخل واشنطن عبر قوات سوريا الديمقراطية شمال دير الزور، ووضعها لقيود حالت دون استكمال القضاء على التنظيم المتشدد بشكل كامل».
فيما عمل النظام السوري على إعادة تفعيل التنظيم من بوابة ريف حمص الشرقي وريف السويداء الشرقي، بعد وصول (داعش) للقلمون الشرقي بريف دمشق، فالنظام معني عبر تمدد (داعش) في البادية بإيجاد سبيل لإقصاء فصائل الجيش السوري الحر في البادية السورية، فتمدد داعش في هذه المناطق يشكل ضغط على الفصائل المعارضة، كما قام النظام بعد سيطرته على مدينة البوكمال الحدودية، بفتح ثغرة لـ(داعش) للانتشار في الصحراء الجنوبية كي يقوم التنظيم بالهجوم على منطقة الـ55 كيلومتر، التي تنتشر فيها القوات الأمريكية وفصيل «جيش مغاوير الثورة»، قرب مطار التنف، ولكن القوات الأمريكية تمكنت من منع أي تقدم في هذه المنطقة، ووصلت أهداف النظام باستخدام (داعش) في البادية السورية لحد عرض خروج التنظيم نحو ريف السويداء الشمالي على أطراف البادية؛ وذلك لخلق اضطراب بالقرب من محافظة السويداء والحدود الأردنية.
فيما تكمن المصلحة الأمريكية بوجود (داعش) في البادية بعد أن أوقف التّحالف عملياته ضد التنظيم في الضفة الشّرقيّة الشِّمالية لنهر الفرات، بإعادة تنشيط التنظيم في سوريا بغية كسب أموال إضافية من بعض الدول العربية في الخليج الفارسي، حسب المصادر السورية التي تؤكد أن واشنطن تعمل بطريقة غير مباشرة على مساعدة التنظيم؛ كي تتمكن من التوسع والحفاظ على أماكن سيطرتها في شرق سوريا.
يتركز وجود (داعش) الآن – كما أسلفنا – في ثلاث مناطق بالباديَة السورية: هي منطقة بادية السويداء، ومنطقة بادية تدمر، ومنطقة بادية البوكمال، ويسعى التنظيم الآن لربط هذه المناطق ببعضها عبر منافذ، بغية إحياء نفسه من جديد.
تشكل محاربة وتطويق وهزيمة التنظيم في مساحة البادية التي تبلغ ضعف مساحة سوريا أمر يشبه المستحيل في نظر العديد من المحللين، فهي منطقة منبسطة واضحة المعالم؛ مما يساعد عناصر التنظيم على التخفي، ويحول دون تحرك الطرف الآخر ضد التنظيم، إلا بالطيران، فأمر ملاحقته يحتاج إلى إمكانات وجيوش ضخمة، وفيما يرى البعض أن التنظيم بات ضعيفًا ولا يمكنه أن يحدث تغيّرًا مفاجئًا في خريطة تواجده بسوريا، إلا أن ضرباته لخصومه، وإن كان هدفها الآن تأكيد وجوده، تؤكد أنه يعمل على إعادة ترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه، مستغلًا صراعات القوى في سوريا واختلاف مصالحها لإرباك حسابات تلك الأطراف، حتى أنه استغل الضربات الصاروخية التي شنتها الطائرات الإسرائيلية على مطار (تي فور) العسكري ووجه ضرباته للنظام.
يوضح مدير شبكة تدمر الإخبارية «محمد العايد» أن «تنظيم (داعش) بات يستغل عدة أمور، لتحقيق ضربات مباغتة وموجعة ضد قوات النظام في البادية، وهي: عدم استهدافه من طيران التحالف خارج حدود منطقة الـ55 قرب معبر التنف، وعدم خبرة ميليشيات النظام بالطبيعة الجغرافية للبادية السورية، بعكس مقاتلي التنظيم الذين يمتلكون خبرة واسعة في قتال البادية، مستفيدين من دروس معاركهم في صحراء الأنبار العراقية»، ويضيف «محمد العايد» لـشبكة «لجيرون» السورية: «كما يستفيد التنظيم من عدم قدرة الرادارات الروسية على كشف تحركاته؛ حيث جرى تسجيل عدة غارات للطيران الروسي على مواقع بعد مهاجمتها من قبل التنظيم بساعات».
المصدر: شفقنا
101/23