تمرّ علينا هذه الأيّام ذكرى استشهاد الإمام السّابع من أئمّة أهل البيت(ع)؛ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، باب الحوائج إلى الله، هذا الإمام الّذي شكّل أنموذجاً حيّاً في الدّعوة إلى الله، رغم كلّ المحن الّتي واجهته، ولكنّه لم يحوّل معاناته إلى مأساة شخصيّة تفقده توازنه، بل كانت حافزاً له لمتابعة المسير إلى الله، وتحويل المأساة إلى مسألة رساليّه، بمعنى وضع الأمّة أمام مسؤوليّاتها، ولفتها إلى دورها المفترض أن تلعبه في إعادة الحقّ إلى الحياة، وجعله الحاكم على كلّ شيء، وعدم الخضوع للظّالمين والمفسدين.
نتعلَّم من الإمام الكاظم(ع) كيف تكون الحريَّة حتى ونحن في قعر السّجون، عندما نلتزم الحقَّ والصِّدق، ونقاوم الظّلم والفساد بروحيّة المؤمن الواثق بتأييد ربّه ونصره له، فلا يمكن مهادنة الظّلم والظّالمين، ولا يمكن إلا أن نكون أحراراً في دنيانا وآخرتنا، فالمؤمن الحقّ لا يبيع نفسه لشياطين الدّنيا من مالٍ وجاهٍ وسلطة.
نتعلّم من الإمام الكاظم(ع) أهميّة التمسّك بالعقل والحكمة والوعي والتّخطيط لحركتنا في الحاضر والمستقبل، كي لا نمكِّن الآخرين من التّآمر على إسلامنا الأصيل، بل أن نحافظ عليه بكلّ قوّة واتّزان، ولا ندعه متروكاً لأهل الجهل والباطل والتخلّف.
نتعلَّم منه(ع) تقدير العقل والمعرفة النّافعة لبناء الإنسان الرّساليّ المتحرِّر من قيود الأنانيَّة والذاتيّات والحسابات.
لقد عاش الإمام الكاظم للإسلام كلِّه، وللإنسان كلِّه بلا تمييز، فانتصر للحقّ وأهله، وأدَّى الأمانة في حفظ الواقع الإسلاميّ كلّه من الّذين حاولوا طمس معالم الدّين وتزوير التَّاريخ وتغييب الحقّ عن ساحات الحياة.
هذا الإمام الّذي إذا قرأناه في تراثه كلِّه، فإنّنا نجده ككلّ أئمّة أهل البيت(ع)، لم يترك جانباً من جوانب حركة الإسلام إلا وأولاه اهتماماً، سواء في عقل الإنسان بما يريد أن يربّي للإنسان عقله، وفي قلبه بما يريد أن يربّي به قلبه، وفي سلوكيّات حياته بما يريد أن يعمِّق له الخطَّ المستقيم في حركته في الحياة.
هذا الإمام الّذي لا بدَّ للنَّاس من أن يقرأوه في هذا الأفق الواسع الممتدّ في عالم المعرفة، والّذي يربط الإنسان بالله، ويربط الإنسان بالإنسان، ويربط الإنسان بمسؤوليَّته عن الحياة كلّها، فلا يكون مجرَّد شخصٍ يعيش في سجن ذاته، ولكن ليشعر بأنّه إنسان لا بدَّ من أن يعيش في حجم العالم كلِّه، لينمّي طاقاته بالمستوى الّذي يستطيع أن يكون فيه عالميّاً، لأنَّ الله تعالى أرادنا أن نقتدي برسول الله(ص) في قوله: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]. وقد كان رسول الله(ص) في رسالته إنساناً عالميّاً، يفكِّر في النَّاس كلِّهم، ويريد أن يؤسلم العالم كلّه.
ولا بدَّ لكلّ مسلم من أن يعيش هذا الأفق، فلا يحبس نفسه في ذاته ولا في عائلته ولا في وطنه ولا في قوميَّته، بل يعيش إنسانيَّته في معنى الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ـ فالله سبحانه وتعالى لا يلغي خصوصيَّاتنا ـ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13]. وتبقى التَّقوى هي الأساس الّذي يتفاضل النَّاس فيه.
هذا الإمام الّذي عاش رحابة الأفق في خلقه، فكان يحسن إلى من أساء إليه، ويعفو عمَّن اعتدى عليه، ويتَّسع صدره إلى درجة يحتضن أعداءه ليعلّمهم كيف يحبّ الإنسان الإنسان، بقطع النَّظر عن التّعقيدات الّتي يمكن أن تتحرَّك هنا وهناك.
كان(ع) يواجه الغيظ من كلّ الّذين لا يحترمون إنسانيّة الإنسان، ومن كلّ المستكبرين في الأرض، والّذين يعيشون على أساس الحقد والعداوة والبغضاء، ويعملون على أساس أن ينفِّسوا عن حقدهم ضدّ الطيّبين. والإمام(ع) كان يكظم غيظه، فلا يتحرّك بردّ فعل سلبيّ، بل كان لديه فعل من نوع آخر، محاولاً أن يعطي القوم الّذين يسيئون إليه درساً في معنى الإحسان، ودرساً في معنى العفو، ولذلك سمّي كاظم الغيظ.
كان الإنسان الّذي عاش مع الله سبحانه وتعالى في أعلى الدّرجات، فكان الله حاضراً في عقله، فليس في عقله مكان إلا لله، وكان الله حاضراً في حياته كلّها، فكانت حياته للرّسالة كلّها، وكان يعيش لذّة اللّقاء بالله، ولذلك كان يطيل السّجود، فتمتدّ سجدته من الصّباح إلى الزّوال، ومن الزّوال إلى الغروب، ولم تكن سجدة تقليديّة، بل كانت سجدة يرتفع من خلالها بروحه إلى الله عزّ وجلّ، فيناجيه ويلبّيه ويدعوه ويعطيه الحبّ كلّه، وبذلك كان العاشق لربّه.. يحبّه.. يناجيه.. يتحدَّث معه، ويتواضع له، وكان يكرِّر في سجوده: "اللَّهمَّ إنّي أسألك الرَّاحة عند الموت، والعفو عند الحساب". وليس هناك ذنب يستغفر الله منه، ولكنَّه التَّواضع الّذي يجعله يجلس بين يدي الله ليعيش كما يعيش العبد أمام سيِّده، لأنّ عبوديّة الإمام(ع) كعبوديّة آبائه وأبنائه، ارتفعت إلى المستوى الّذي اندفع فيه مع الله في كلِّ معاني الذّوبان بالله.
ولأنّه أحبَّ الله في أعلى درجات الحبّ، وأطاعه في أرحب مواقع الطّاعة، وجاهد في الله حقّ جهاده، بكلّ ما تعنيه كلمة الجهاد، بالكلمة والموقف والمجابهة، فقد انطلق ليتحدَّى. وانفتح المسلمون عليه، حتى شعرت الخلافة بأنّه يهدِّد موقعها، فلم يتحرَّك بثورة كما هو متعارف، ولكنّ ثورته كانت ككلّ ثورات الأئمّة من أهل البيت(ع)، أن يغرسوا الوعي في عقول النَّاس، وأن يعرّفوهم أن معنى أن تكون مسلماً، أن تقتلع من صدرك كلّ ميل أو عاطفة تجاه الظّالمين، حتى لو كان ذلك يتعلّق بمصلحتك.. أخرج الظّالمين من دائرة مشاعرك كلّها، حتى لا يبقى أيّ مجال للظّلم أو حبّ الظّلم فيها.
في ذكرى شهادة الإمام الكاظم(ع)، نتعلّم كيف نعيش أحراراً ونموت أحراراً، ونسلم أمورنا إلى الله ونحسن الظّنّ به والتوكّل عليه، ونتعلم كيف نخلص لله وحده ونحبّه ونسعى لنيل رضوانه، ونتعلّم الصّبر على البلاء، والتحلّي بالحكمة والمسؤوليّة وحسن التفكّر والتّدبير في أمورنا، وأن نكون الرّساليّين الموحّدين عمليّاً لله في سلوكهم وعلاقاتهم وكلّ أوضاعهم.
فالسّلام على الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّاً...
المصدر: موقع بينات