الإمام الكاظم(ع)...مواقف رسالية مشرفة

الأربعاء 11 إبريل 2018 - 03:58 بتوقيت غرينتش
الإمام الكاظم(ع)...مواقف رسالية مشرفة

يصادف الخامس والعشرون من شهر رجب الحرام، ذكرى وفاة العبد الصّالح، باب الحوائج إلى الله؛ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)...

آية الله السيد محمد حسين فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم.

يصادف الخامس والعشرون من شهر رجب الحرام، ذكرى وفاة العبد الصّالح، باب الحوائج إلى الله؛ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع).

وهذا الإمام ككلّ أئمة أهل البيت(ع)، عندما يُذكَرون، نتذكّر معهم العلم والحلم والعبادة والثبات والتواضع والكرم والعطاء وحسن الخلق...

فقد كان الإمام الكاظم(ع)، كما أورد عنه الشيخ المفيد(رض) في كتابه "الإرشاد": "أعبد الناس وأعلمهم وأشجعهم وأسخاهم، متواضعاً لله تعالى، أسجدهم، وأزهدهم وأكرمهم نفساً".

موقعيّة الإمام الكاظم

وقد عبّرت الألقاب التي لقِّب بها في المجتمع الذي عاش فيه، عن الموقع الذي بلغه(ع) في قلوب الناس وعند الله سبحانه، فقد لقِّب بألقاب عديدة، منها العبد الصّالح، والأمين، وزين المجتهدين، وكان اللّقب الأساس الذي واكب اسمه ولا يزال "الكاظم"، لكظمه الغيظ، ولصبره على أذى الظّالمين ومبادلة الإحسان بالإحسان.

وقد أشار الإمام الصّادق(ع) إلى موقع ولده الإمام الكاظم(ع) عندما قال عنه: "الحمد لله الّذي جعلك خلفاً من الآباء، وسروراً من الأبناء، وعوضاً عن الأصدقاء". وقد تولّى(ع) سدّة الإمامة بعد وفاة أبيه(ع) لمدّة خمسة وثلاثين عاماً، وذلك في مرحلة قوة الدولة العباسية، حيث تعاقب عليها في حياته عدد من خلفائها، وقد عانى الإمام(ع) منهم، ولكنّ أشدها مرحلةً كانت في عهد خلافة هارون الرّشيد، الذي بلغ به الطغيان حدّ القول للغمامة: "اذهبي حيث شئت، فسوف يأتيني خراجك".

فقد كان هارون الرشيد، كما الخلفاء قبله، يخشى الإمام(ع)، لأنّه كان يراه ندّاً له، ولأنه كان يعرف أنّه أحقّ بالخلافة منه، لما كان يراه من إقبال الناس عليه ومحبّتهم له، حتى قال أحدهم: "ما ظننت أنّ في الأرض خليفتين، حتى رأيت موسى بن جعفر الكاظم"، فقد كان الحاضر دوماً في قلوب الناس.

وكان الإمام(ع) صلباً في ذات الله وقويّاً، كان يتحدَّى جبروت الرّشيد وطغيانه وظلمه، ويقول كلمة الحقّ والعدل ولا يخشاه.

مواقف رساليّة مشرّفة

ونحن في هذه المناسبة، سنشير إلى العديد من هذه المواقف، كي نعرف شجاعة هذا الإمام وعنفوانه، لأننا غالباً لا نرى هذه الصّورة من الإمام الكاظم(ع) ومن أهل البيت(ع)، فنحن أكثر ما نتحدّث عن بلائهم ومعاناتهم والظّلم الذي تعرّضوا له، ونستغرق في ذلك. وهذا طبيعيّ، ولكن لا ينبغي أن نغفل عن المواقف التي تظهر فيها جرأتهم وبطولتهم وثباتهم في مواجهة الظّلم والطغيان والفساد والانحراف، والّتي بسببها عانوا وتحمَّلوا ما تحمَّلوا.

من هذه المواقف، ما حصل عندما جاء هارون الرّشيد إلى قبر النبيّ(ص) في المدينة، وقال أمام الناس: "السّلام عليك يابن العمّ"، وهو بذلك يريد أن يشير إلى الشّرف الذي بلغه من كونه أقرب النّاس إلى رسول الله(ص)، وإلى أنّ شرعيَّة خلافته وخلافة بني العبّاس، تعود إلى كونهم أقرب النّاس إليه. إلا أنَّ الإمام(ع) أراد أن يُكذِّب هذا الادّعاء، ويتحدَّى عنفوان هارون الرّشيد، لذا توجّه مباشرةً إلى قبر النبيّ(ص)، وأمسك بالقبر وقال: "السّلام عليك يا أبتِ"، قاصداً أنّك إذا كنت ـ يا هارون ـ تدّعي شرفاً من قربك من رسول الله، وشرعيّةً لخلافتك، فأنا أقرب إليه منك، فأنا من أبناء رسول الله(ص).

وغضب هارون الرشيد، ولكنه استدرك الموقف بالقول: "كيف تدَّعون أنّكم أبناء رسول الله، وأنتم أبناء عليّ، والولد ينسب إلى أبيه ولا ينسب إلى أمّه؟! فقال له(ع): يبدو أنّك لم تقرأ القرآن، لو قرأت القرآن لما قلت ذلك، القرآن يقول: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. وهذه الآية، حسب كلّ المسلمين، نزلت يوم المباهلة، عندما جاء رسول الله(ص)، وعلى كتفه الحسن والحسين، ومعه السيّدة الزهراء(ع) وعليّ(ع).. ليؤكّد أنّ القرآن الكريم اعتبر الحسن والحسين أبناء رسول الله(ص)، وذلك بقوله: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ}.. عندها لم ينبس هارون الرّشيد ببنت شفة، ومشى غاضباً وهو يتوعّد الإمام(ع).

وموقف آخر، هو ما قاله لأحد أصحابه، وهو ممن كان يروي عن الإمام الأحاديث، وهو صفوان الجمال، عندما جاء إليه يوماً. قال له: "يا صفوان! إنّ كلّ شيءٍ منك حسن ما خلا شيئاً واحداً"، فقال: جعلت فداك، أيّ شيء؟ قال: "إكراؤك ــ أي تأجيرك ــ جِمالَك لهارون الرَّشيد"، قال له: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصّيد ولا للّهو، ولكنّي أكريته لهذا الطّريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه، ولكن أبعث معه غلماني. فقال(ع): "يا صفوان! أيقع إكراؤك عليهم؟"، قلت: نعم، جعلت فداك. فقال(ع): "أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك". قلت: نعم. قال الإمام: "فمَن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً النّار. يا صفوان ألم تسمع قول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}". قال صفوان: فذهبت وبِعتُ جِمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني وقال: يا صفوان! بلغني أنّك بعت جمالك ؟ قلت: نعم. فقال: لِمَ ؟ قلت: ما عدت أقوم بهذا العمل، وقد استغنيت عنه. فقال هارون: هيهاتَ هيهات! إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، فالأمر ليس من عندك؛ إنه موسى بن جعفر.

الإمام في السّجن!

ولم تقتصر مواقف البطولة والعزيمة والثّبات للإمام على فترة حريته، فقد برزت أيضاً حتى وهو في غياهب السجن. فكما تعرفون، عاش الإمام فترة طويلة في سجون هارون الرّشيد، حيث تنقَّل بين سجونه ما بين ثماني سنوات إلى أربع عشرة سنة، والهدف من ذلك واضح، هو الضّغط على الإمام(ع) ليتنازل عن مواقفه ويساوم على حرّيته.

حيث تذكر السّيرة، أنَّ هارون الرَّشيد لما شعر بعدم جدوى إبقاء الإمام(ع) في السِّجن، وأنَّ السّجن لم يؤثّر فيه، وخشي من نقمة الناس عليه، أراد له أن يخرج، ولكن ليس بالمجان، ولا أن يخرج(ع) بهذا العنفوان والعزّ، بل أراد له أن يخرج ذليلاً.

فأرسل حينها خلف وزيره يحيى بن خالد البرمكي، وأمره بأن يذهب إلى الإمام(ع) ويبلغه أنّه على استعداد لإطلاق سراحه بشرط أن يعتذر منه. ورفض الإمام حينها وقال له: ليس عندي ما يستوجب الاعتذار، هو من ينبغي أن يعتذر إليّ، إذهب إليه وقل له: إنَّ الأجل قريب، والحساب هناك: "يا هارون إنّه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرّخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون".. فأيّ عزّ هو هذا العزّ، وأيّ عنفوان هو هذا العنفوان؟!

تصوّروا هذا الموقف: الإمام سجين، وقد حصل هذا بعد أن قضى في السّجن السنوات الطوال، والسجن آنذاك ليس كما سجون هذه الأيّام، السجون آنذاك كانت تحت الأرض في مكان مظلم موحش، يعرض عليه هارون أن يعتذر ويخرج من السّجن وتنتهي معاناته، ولكن هيهات أن يصدر ذلك عنه(ع)!

لقد كان السِّجن خياره؛ هو لا يريد حريّة ذليلة، حريّة تجعله يسكت على ظلم الظّالمين، عن قول كلمة الحقّ، عن نصرة المظلومين، عن الانحراف الّذي أريد له أن يمنحه الشّرعيّة ويصبح أمراً واقعاً، فهو قال ما قاله النبيّ يوسف(ع): {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.

لقد أحبّ الإمام الكاظم السجن، لم يره مظلماً ما دام يؤكّد موقفه الرافض للطغاة، وقد حوّله الإمام إلى مكان أنس وراحة، فهو أتاح له لأن يتفرّغ فيه لعبادة ربّه، لذا نقل عنه(ع) أنه كان يدعو الله تعالى قائلاً: "اللّهمّ، إنّك تعلم أني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد".

ففي السجن، كان الإمام(ع) يقضي وقته قائماً راكعاً ساجداً، قارئاً للقرآن، ذاكراً الله، يصلّي نوافل الليل ويصلها بالصّبح، حتى تطلع الشّمس، ويخرّ ساجداً إلى ما يقرب الزّوال، في تلك السجدة الطويلة التي عُرف بها.

ولذلك، شعر هارون الرشيد بالضيق من وجود هذا الإمام، من ثباته ومن صبره، وبعد أن لم تنفع معه الوسائل، قرّر أن ينهي حياته الشّريفة وهو في غياهب سجنه.

صورة العزّة والكبرياء

هذا هو الإمام الكاظم، هذا هو طريقه، هذه هي صورته. بهذه الصورة المتوازنة ينبغي أن نراه. نعم، كان يعاني ويتألم ويُظلَم وهو في سجنه، ولكنه في الوقت نفسه كان قويّاً عزيزاً، يطلق كلمة الحقّ والعدل وهو على استعداد لتحمّل نتائجها.

وهذه الصورة هي التي نراها في كلّ أئمة أهل البيت(ع)؛ هم عانوا وتألموا، ومن حقهم علينا أن نتألم لألمهم، ولكن هذا لا يبرّر لنا أن نصوّرهم مهزومين مكسورين، فهم لم يكونوا كذلك. فنحن لا نراهم ولن نراهم إلا أبطالاً شجعاناً في مواقف الحرب وفي مواقف السِّلم، لا يعطون إعطاء الذّليل، ولا يقرّون إقرار العبيد، لأنهم لا يرون الموت إلّا سعادةً، والحياة مع الظالمين إلا برماً، يلتزمون الحقّ حتى لو اقتضى منهم تضحية بأغلى ما عندهم.

إننا نسيء إليهم عندما لا نفعل ذلك. وإلى هذا، أشارت كلمات زيارتهم، وهذا ما نتوجَّه به في زيارة الإمام الكاظم(ع):

"السّلام عليك يا باب الحوائج إلى الله موسى بن جعفر الكاظم. أشهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغتَ عَنِ اللهِ ما حَمَّلَكَ، وَحَفِظَتَ ما استَودَعَكَ، وَصَبرتَ على الأذى في جَنبِ اللهِ، وَجاهَدتَ في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ حتى أتاكَ اليَقينَ. وَأشهَدُ أنَّكَ نَصَحتَ للهِ وَلِرسولِهِ وَلأميرِ المؤمِنينَ، وَأنَّكَ أدَّيتَ الأمانَةَ، وَاجتَنَبتَ الخيانَةَ، وَأقمتَ الصَّلاةَ وآتيتَ الزكاة، وأمرتَ بالمعروف ونهيت عن المنكر، وعبدتَ اللهَ مخلصاً مجتهداً مُحتَسِباً حتى أتاكَ اليَقينُ. فَجَزاكَ اللهُ عَنِ الإِسلامِ وَأهلِهِ أفضَلَ الجَزاء وَأشرَفَ الجَزاءِ".

جعلنا من المتّبعين لك، المقتدين بآثارك، والعاملين بنهجك، إنّه أرحم الراحمين.

موقع بينات