الإمام السيد علي الخامنئي
ليس علي بن أبي طالب بالشخصية التاريخية فحسب، وإنما هو أمير المؤمنين، أي بالنسبة لنا الأسوة والقدوة والنموذج، ونموذج للحكومة التي ينبغي على حكامها وقادتها أن يقتدوا بسلوكه ومنهجه، وعلى الإسلاميين أن يتخذوا سلوك ومنهج علي بن أبي طالب قدوة ونموذجاً لهم. واليوم حيث أنعم الله علينا بقيام الجمهورية الإسلامية والتي أثبتت جديتها في العالم وذلك بفضل جهود المسلمين والتضحيات الجسام التي بذلت، على الأشخاص الذين يمسكون زمام أمور الحكومة الآن والذين سوف يتولون ذلك في المستقبل أن يعملوا وأن يخططوا لأجل تحقيق هذا النموذج؛ فالقدوة في المجتمع هي لأجل صنع وإحياء الفرد المسلم، وهذا ما كنا نفتقده طوال زمان النظام الشاهنشاهي المشؤوم الذي لم يتح مجالاً لهذا العمل، بحيث نحيا حياة إسلامية ونبقى مسلمين،
أما اليوم فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة في ظل وجود نظام الجمهورية الإسلامية. إن شخصية علي (ع) مؤهلة لأن تكون القدوة لصنع وإحياء الفرد المسلم، وكذلك لنعلم كيف يحيا المسلم، وبناء على هذا فإذا أردنا أن نتحدث عن أمير المؤمنين لا ينبغي أن يكون للتيمن والتبرك بذكره فقط، بل للتعلم منه والاستفادة من مشعل نوره لحل المشكلات ولإزالة العوائق التي تمس الآن بالجمهورية الإسلامية، حيث الآن تواجه مشكلة في مواجهتها للقوى الاستكبارية في الشرق والغرب وعدم انسجامها مع الأطماع الإمبريالية والاشتراكية. إن كل المتتبعين والعارفين بالمسائل والأحداث السياسية في العالم يعرفون أن الثورة تبتلى بمشاكل وتواجه صعوبات، هذا أمر طبيعي، لكن على كل الأحوال يجب علينا في مقابل هذه المشاكل أن نجد طريق الحل، فعندها يصبح للمشاكل نهاية وللعقد حلول ميسرة. ولكي نهتدي إلى سبيل النجاة نرجع إلى حياة أمير المؤمنين التي سوف تفتح لنا باب الحل.
أتعرض هنا إلى ما يتعلق بجوانب شخصية أمير المؤمنين، إلى شكل حكومته وقيادته، ثم علينا فيما بعد أن نطابق حياتنا ومنهجنا في العيش مع علي (ع). والآن إذا أردنا أن نقف على المحطات البارزة واللامعة في حياة مولى المتقين وأن نتعرف على شخصيته وحكومته، أظن أنه علينا أن ندرس نقطتين أساسيتين وحساستين، وأتصور أن شخصية أمير المؤمنين (ع) بعنوان أنه الحاكم وخليفة رسول الله (ص) تدخل في صلب هذه النقاط. طبعاً لن نتعرض في هذا البحث إلى شخصية علي (ع) المعنوية والعرفانية، تلك الشخصية التي كانت دائماً مرتبطة بالفيض واللطف الدائم لله سبحانه، بل سنتحدث عن علي (ع) كحاكم إسلامي حكم الأمة الإسلامية لفترة من الزمن؛ ولكي نتعرف على شخصية وأسلوب هذا الحاكم بشكل واقعي سأتحدث اولاً بشكل كلي ومجمل.
النقطة الأولى: البارز في حياة أمير المؤمنين كحاكم هو التزامه وتعبده الكامل بما جاء به الإسلام وما ورد في شريعته؛ فأمير المؤمنين تربى في كنف الإسلام، وفي الوقت الذي كان الرسول يتولى الحكومة ويتحمل الأذى والمصاعب في سبيل الإسلام كان علي (ع) الشاب المقاتل المقدام الذي لم يجلس في بيته وينتظر وقوع الحوادث، بل كان حاضراً في كل المواجهات والتحديات؛ فلقد سخر كل إمكاناته وكمالاته الإنسانية في خدمة الإسلام، حيث شارك في كل الحروب والغزوات التي جرت في زمن رسول الله (ص) باستثناء حرب واحدة لم يشارك فيها بناءً على طلب الرسول، حيث طلب منه البقاء في المدينة. فقدم حياته للإسلام، وكان حاضراً دائماً ليضحي بروحه دفاعاً عن الإسلام. وفي ذلك اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون على شخص غير علي (ع) ليسلموه الإمرة والخلافة، حيث اتبع جمع الناس مجموعة صغيرة انسلخت لتبايع غير علي (ع)؛ وعلي الذي كان يرى ويعلم بأن الخلافة من حقه وهو اللائق بها، وكان يستطيع إن أراد أن يواجه أولئك ويقوم بدعوة الناس وتحريضهم، لم يقم بذلك وضحى لمصلحة الإسلام. وكذلك فَعَلَ أيضاً بعد وفاة الخليفة الثاني، حيث قال له أعضاء الشورى الستة اقبل بالعمل طبق سنة النبي وسيرة الشيخين حتى نبايعك، ولكنه (ع) رفض ذلك؛ فهذا مخالف لما يؤمن به ويتعارض مع تكليفه والتزامه. وأدى هذا الرفض به إلى أن يتأخر عن تسنّم الخلافة 12 عاماً أخرى. وطوال فترة حياته التي سبقت تسنّمه الخلافة كان دائماً يجاهد ويتحرك في سبيل خدمة الإسلام والشريعة، لذا فمن الطبيعي أن يعمل على تطبيق الأحكام الإسلامية حين تسنمه للخلافة وعلى تحكيم الثوابت الإسلامية، وهذه الخصوصية الأولى للأمير (ع). وأنتم إذا أردتم أن تقارنوا بين علي وبين الأشخاص الذين وقفوا في وجهه، ستجدون فرقاً أساسياً؛ فعلي (ع) لم يكن حاضراً إلا ليتحرك ويعمل لأجل الإسلام الذي قد عرفه وآمن به.
النقطة الثانية: ــ والتي أتمنى أن تلتفتوا لها جيداً وقد كررتها مراراً ــ هي أننا اليوم بحاجة أكثر من أي يوم مضى لمعرفة المباني الإسلامية والقرآنية والدينية. فنحن علينا جميعاً اليوم أن نتعلم ونفهم الإسلام ماذا يريد وكيف يطرح فكره في كل الميادين والمجالات. إن المسألة الأساسية اليوم هي التعرف على الإسلام، وإحدى الطرق التي نفهم من خلالها الإسلام ونستطيع أن ندرك ما يريده منا هي معرفة سيرة ومنهج الإلهيين ومن جملتهم أمير المؤمنين (ع)، لذا نتحدث اليوم عن أمير المؤمنين لا لنبين مزايا هذه الشخصية التاريخية الإسلامية فقط، بل لأجل معرفة وبيان الإسلام، فإننا نعرف الإسلام من خلال علي (ع).
ننتقل الآن إلى النقطة الثانية في شخصية أمير المؤمنين والتي ترتبط بكونه حاكماً إسلامياً؛ فعلي الحاكم لم يكن مستعداً على الإطلاق أن يهادن ويصالح الأشخاص الذين لم يكونوا يتحركون في ضمن خطه ومسيرته، أي الذين لم يتحركوا في خط الإسلام وفي سبيل الله، وحياة علي تشير إلى ذلك؛ فعلي ــ تلميذ النبي ــ لم يكن مستعداً للمسايرة، كالنبي نفسه، الذي كان يتحرك في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة. وحياة النبي كلها شاهدة على رفض المهادنة والأهواء والأنانيات، ولو كان أمير المؤمنين (4) مستعداً أن يهادن لكان استطاع أن يحد من نفوذ القادة والشخصيات المعادية له والبارزة في وسط الناس والتي تتمتع بقدر من الاحترام لديهم، وأن يخرس ألسنه الذين انتقدوه، ولو كان أيضاً مستعداً أن يخفف من مواجهته لأعداء الإسلام والحكومة الإسلامية، فمن المؤكد لم تكن لتواجهه كل هذه المشاكل والمصاعب. وهنا كان امتياز علي (ع) الحاكم، عن غيره من الحكام، فأولئك كانوا مستعدين أن يتحالفوا مع أي طرف ضد عدوهم؛ فنرى معاوية وعمرو بن العاص المتنافسين والمتخالفين مع بعضهما، يقفان جنباً إلى جنب لمواجهة علي (ع). وكذلك إذا نظرنا إلى طلحة والزبير من جهة وإلى معاوية من جهة أخرى، فلقد كانوا متعادين، لكنهم كانوا مستعدين أن يتحدوا وأن يقفوا جنباً إلى جنب لمحاربة علي بن أبي طالب (ع)، بينما رفض علي (ع) أن يتحالف مع طلحة والزبير ضد معاوية. فبالنسبة لأمير الؤمنين هذا التحالف مخالف للنهج الإسلامي، معاوية عدو ومخالف وبنفس الدليل فطلحة والزبير أعداء لا يمكن مسايرتهم والتحالف معهم. هذه أيضاً من خصوصيات علي (ع). قال أمير الؤمنين (ع): "فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليَّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم"! وفي مكان آخر يقول: "والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما آخذ الله على العلماء من أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت أخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز".
إن علينا اليوم أن نأخذ الدروس والعبر من سيرة أولئك المعلمين للبشرية، الأئمة بالحق (ع)، ننهل من كلماتهم الهادية والمضيئة دروس الحياة والإخلاص والتضحية كي يعم عدل الإسلام في هذا العالم. ما أريد أن أتناوله هنا هو خطبة أمير الؤمنين التي ذكرتها في المقدمة والمسماة بالخطبة الشقشقية، لكن قبل ذلك أود أن أنقل حادثة، ولعلكم سمعتموها عن أمير الؤمنين (ع)؛ ففي إحدى الحروب التي خاضها (ع) وفي وقت هدنة قصيرة، جلس (ع) في خيمته مشغولاً بتجهيز نفسه للهجوم المقبل، فدخل عليه ابن عباس فوجده منهمكاً بخصف نعله، فالنعل يجب أن يكون محكماً بشدة للتحرك بسهولة وسرعة في الحرب، وأمير المؤمنين (ع) كان قد انتهز هذه الفرصة كي يصلح نعله المقطع، مع العلم بأنه كان حينها حاكماً للبلاد الإسلامية المترامية الأطراف والقائد العام للجيش الإسلامي الكبير. هذا الحاكم الذي كانت تحت ولايته إيران وأفغانستان والعراق ومصر واليمن، ما عدا الشام، هذا الإمام كان منشغلاً بخصف نعله! تأمل ابن عباس ملياً في المشهد الذي يحمل لشخصٍ متيقظ القلب مثله الكثير من الدلالات والمعاني. التفت الإمام (ع) إلى ابن عباس ليسأله: ما قيمة هذه النعل؟ وبالطبع لم يكن لها قيمة وهي جديدة، فكيف وهي بالية، يصلحها من لا شأن له بهذه المصلحة (الأسكافية)؟! أجاب ابن عباس: لا قيمة لها. فعندها قال أمير المؤمنين (ع): "والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً". فما معنى هذا؟! إنه يعني أنها إمرةٌ وولاية ذات هدف، هي حكومة الدين؛ فالإمام يقصد أني لست مولعاً بالرئاسة ولا أريدها، ولكن هذا القبول بمقام الخلافة والإمارة لا أتركه كوني بواسطته أرتقي بالمجتمع الإسلامي وأديره لأقيم فيه الحق وأدفع الباطل… وهكذا كان…
فلنعد الآن إلى الخطبة الشقشقية التي يبين فيها الأمير (ع) مجرى الأحداث المتعلقة بالخلافة منذ وفاة النبي (ص)، إلى أن وصلت هذه الخلافة إليه (ع)، فيقول: "وما راعني إلا والناس… حتى وطئ الحسنان…" يعني كان إلحاح الناس واحتشادهم علي، رغبة بي، إلى هذا الحد، وذلك كي يقبل بالخلافة، ويقبل أخيراً، ولكن لماذا؟ يوضح الإمام علي (ع) هدفه الذي قبل لأجله حيث يقول: "والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها…". فالحكومة بحسب الرؤية الإٍسلامية ليست سوى عبادة في هدفها ومنطلقاتها؛ فأمير المؤمنين (ع) قبل بالخلافة لعدة أمور:
أولاً: طلب الشعب وإصراره على ذلك. وهو عامل أساسي ومصيري في تسنّم الخلافة.
ثانياً: قيام الحجة بوجود الناصر، فهو (ع) يرى دعماً ومساندة يستطيع بواسطتها أن يحقق أهدافه، ولو لم ير ذلك لما قبل.
ثالثاً: ما أخذ الله على العلماء؛ فأمير المؤمنين لكونه عالماً فهو مسؤول أمام الله سبحانه وتعالى أن لا يرضى بالظلم وأن ينصر المظلوم.
تلك هي المعايير التي جعلت أمير المؤمنين (ع) يقبل بتولي الخلافة.. واليوم فإن من لا يؤمن بالله ولا يقبل بالإسلام كبرنامج للحياة وتكون أفكاره وآراؤه مستوردة من الأفكار القومية أو المادية الإلحادية أو ما يمكن تسميته بالإسلام الالتقاطي، مثل هكذا شخص ممن ليس لديه فكر إسلامي إلهي لن يكون قادراً على تشكيل حكومة إلهية، والتي إن لم توجد فلن يوجد مجتمع إسلامي أبداً. هنا أطلب منكم أن تتحلوا بالوعي واليقظة في النظر للأمور، فأنتم اليوم عندما تنظرون عن بعد إلى تاريخ صدر الإسلام تشاهدون بأم العين علي بن أبي طالب كرجل عظيم وصاحب حق، بينما معاوية يظهر كشخص وضيع… أما في تلك الأيام التي جرت فيها الحرب بين أمير المؤمنين (ع) ومعاوية فقد كان هناك أشخاص من صحابة النبي (ص) ممن لايزال يقاتل مع معاوية، ولعل بعضهم كان من المؤمنين. من كان يظن بأنه يقوم بعمل جيد وصالح بحيث كان يقول: معاوية خال المؤمنين! ففي ذلك الوقت كان الوعي والدقة أمراً مطلوباً بشدة، فمن كان يملك الوعي؟ عمار بن ياسر نموذج من أولئك الذين تمتعوا بالوعي؛ فقد جمع بعض الذين اشتبهت عليهم الأمور فقال لهم: "أقسم بالله أني رأيت هذه الراية، نفسها التي يقف تحتها اليوم معاوية ضد علي (ع)، في معركة بدر حيث كانت يومها مع أبي سفيان". فإن الوعي والدقة ما يلزمنا دائماً. إن روح تاريخنا إنما هي في ذكر سيرة أئمتنا، فلو لم يكن في تاريخ التشيع هذه الشخصيات العظيمة كأمير المؤمنين والحسنين والزهراء (ع)، لما بقي أثر للتشيع يذكر في أيامنا هذه، بل ولا أثرٌ للإسلام نفسه، اللهم إلا في طيات بعض الكتب..
هذا الإسلام، إنما حُفظ لنا بذكر علي، وبجهاد هؤلاء العظام وشهادتهم (ع). وكما تعلمون فإن مشاعر الناس وأحاسيسهم المنبعثة من حبهم لأهل بيت النبوة (ع) تتفجر لتصل إلى ذروتها ذكرى أفراح أو أحزان آل محمد (ص)، أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر". كان الإمام شريك الناس في كل الآمهم وهمومهم، مذكراً في وصيته "الله الله في الأيتام". كان (ع) السباق في رعاية الأيتام؛ فاليتيم أشد حاجة للعطف والحنان، محروم من تلك البسمة الأبوية العامرة بالمحبة، محروم من مداعبة أبيه له، فمن يملأ هذا الفراغ؟ علي (ع)، يسير ليلاً بين تلك المنازل التي كان يعرفها ويعرف أحوال أهلها، حاملاً إليهم الطحين والأرز والزيت، ومساعداً لهم، بإشعال التنور أحياناً.. ملاطفاً الأيتام؛ يجلسهم في حضنه، يلاعبهم كي لا يشعروا بالحزن والكآبة. عظمة علي معروفة ومشهورة في الحرب وساعات الوغى، لكن الأهم والأعظم مواساته وخدمته للأيتام والمحرومين، في دموعه المليئة عطفاً وحناناً. في تلك الليلة.. في ليلة العشرين من شهر رمضان، انتظره الأطفال الذين كان يجلسهم على ركبته ويمسح على رؤوسهم بكل لطف، يطعمهم بيده.. انتظروا ذلك الرجل.. لكنه لم يأت… في تلك الليلة عرفوا من هو… ولعلكم سمعتم بما جرى عندما طلب الطبيب المعالج للأمير (ع) إحضار الحليب لعله يدفع أثر السم كيف أن عشرات الأطفال الأيتام أتوا من كل أنحاء الكوفة يحمل كل منهم كوباً فيه حليب واندفعوا نحو منزل الإمام يريدون رد الجميل وشكره على محبته ورعايته وحنانه… ولعلكم سمعتم أيضاً عن ذلك العجوز الأعمى الذي كان في تلك الليلة يئن من الوحدة وألم الجوع فسأله بعضهم: فكيف كنت تصنع في الأيام السابقة؟! فذكر لهم أن رجلاً كان يأتي إليه يواسيه ويطعمه بيده.. وأخبرهم بمواصفات ذاك الرجل.. الذي ما كان سوى علي (ع)… هذا الإنسان المتعدد الأبعاد، والذي كان حقاً كما وصفه الرسول الأكرم "يا علي أنت فاروق الحق والباطل"؛ فكان الملجأ والحامي لكل من يشعر بالضعف والحاجة الوحشة؛ هذا الإنسان الذي كان يقع مغشياً عليه في محراب العبادة من خشية الله، هو نفسه الحاكم الذي لم يتحمل وجود والٍ ظالم كمعاوية، وهو نفسه من وبخ أحد الولاة وكان من أصحابه، لأنه أسرع في تلبية دعوة أحد الأشراف إلى الضيافة والولائم. وهو الحافظ لبيت المال، بحيث أنه وفي الليلة الأولى لاستلامه الخلافة يطفئ المصباح كي لا يصرف من بيت مال المسلمين، وكي ينبه بعض الصحابة المدعين ويحذرهم من سوء أعمالهم. هذا الإمام كان مظهراً للدفاع عن البشر وحقوق الإنسان واحترامه، وهذا هو الإسلام الذي يتجلى بالتوحيد بكل أبعاده وإكرام الإنسان وعزته، وبالمساواة وروح الأخوة بين جميع الناس. ومن يخرج عن هذا النهج فلا يعدّ مسلماً حقاً وإن لم يخرج ظاهراً، فإن قلبه لم يؤمن بعد بالله والقرآن إيماناً كاملاً. ومن يكن أسيراً للآمال والأهواء والانجذاب نحو حياة الترف والوجاهة المليئة بالزبارج والزخارف ويطلب من المسؤولية والسلطة المال فقط ويرغب في المظاهر الفارغة (سيارة من طراز السنة…) وإظهار القوة والقدرة… مثل هكذا شخص لا يمكن أن يدعي بأنه خليفة لعلي (ع)..
يجب علينا جميعاً أن نحفظ هذا المعيار دائماً كوننا ننادي بعلي ونبحث عن نهجه. كان هذا كلامنا وخطابنا وقد سمعتوه منّا منذ عشرين أو ثلاثين سنة، لم يتبدل ولم يتغير.. والآن يظهر جلياً أنه لم يكن ادعاءً أو شعارات فارغة، وما زلنا أمام امتحان واختبار، ونحن الذين حتى الأمس القريب كنا نقول لكم أظهروا ما تعتقدون به وتعلّموا واعملوا بكل هذا في ساحة حياتكم الفردية؛ فاليوم أيضاً نعيد نفس الكلام ونذكركم بنفس المطالب كي يصبح مجتمعنا مقتدياً بمثال علي بن أبي طالب (ع). فهذا ذكر علي (ع) ومن عنده نبدأ ونتقدم.
فالإسلام إنما ينبع منه (ع). ذلك اليوم الذي كنا نعيش فيه تحت ظل الحكم الطاغوتي، لم تكن الأعمال ذات الطابع الفردي ذات تأثير أو أن تأثيرها في تغيير الأوضاع كان ضعيفاً، وقد كنا حينها (أنا وكثير من العلماء المنسجمين بالمنهج والفكر) على هذا الاعتقاد وهو أن لا نحدث الناس ولا ندعوهم بدون وعي إلى الأخلاق بل إلى الأخلاق التي تدفع الناس إلى حمل السيف لمقاتلة أسرة بهلوي. فالأخلاق هي ذلك الشيء الذي يدفع الناس للجهاد والمواجهة وتحفيزهم للقيام ولاقتلاع غدة الفساد. وهذا الوضع يشبه الجسم، حيث إذا بقي جهازه الهضمي مريضاً فإن كل ما يتناوله من غذاء أو أدوية لا ينفع ولا يجدي، فلا بد من العمل الجراحي مهما رافقه من ألم ونزيف ومعاناة. فإن النهاية سيعقبها الصحة والعافية والسلامة، وما لم يقم الإنسان بهذه العملية فصحيح بأنه لن يتألم من العملية، ولكنه في الحقيقة سوف يتجه نحو الضعف الكلي والموت. بهذا المنطق كنا نعمل ونتكلم، والآن هذا التوجه نفسه ما زلنا ندعو إليه.. فقد أجريت العملية وزال وجعها وحان وقت تناول الغذاء المفيد والأدوية المقوية لجسم مجتمعنا، في ذاك الوقت كنا نطلب منكم الجهاد والمواجهة الثورية، واليوم بعد أن هزمتم الطاغوت الحاكم، صارت ساحة جهادكم هي الساحة الأخلاقية والاهتمام بتقوية العبادات والفرائض والاطلاع على المعارف الإسلامية؛ مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة للجانب الأخلاقي (وهذا لا يعني إهمال الشأن السياسي) بل ان العمل السياسي يبقى واجباً، ولكن عليكم عدم الاكتفاء بهذا وعدم الغفلة عن الاهتمام بالأخلاق والعبادة وتعلم القرآن والمعارف الإسلامية، وإحياء مثل هذه الليالي (من شهر رمضان) بأدعية أبي حمزة الثمالي ودعاء الافتتاح. إذن فاليوم هو يوم الاهتمام والتوجه لمثل هذه الأمور؛ ففي مجتمعنا الآن مشاكل كثيرة في سلوك الناس، إحداها أن الآباء والأمهات لا يلتفتون إلى مسألة إعطاء القيمة والتشجيع لأبنائهم الشباب والفتيان… ونقول لهؤلاء الأهل دعوا أولادكم، ليتعلموا المعارف الإسلامية وليشاركوا في الأنشطة الإسلامية، فالمئات من الشباب وخاصة من الفتيات كتبوا إليَّ يشكون من أن أهاليهم أنهم لا يسمحون لهم بالذهاب إلى صلاة الجمعة! مع أن هذه الصلاة هي مناسبة لتلاحم ووحدة هذه الأمة وليس عبثاً تأكيد الإمام المتكرر على ضرورة المشاركة فيها، بحيث أن المؤمنين الصادقين كانوا يأتون إليها ويفرشون سجادات الصلاة على الثلج في الشوارع شتاءً، وعلى الإسفلت الحار صيفاً، ولا يتركون هذه الصلاة بأي حال. إذن دعوا شبابكم ليأتوا ويتعلموا، وإن رغبوا مثلاً بالانضمام إلى قوات الحرس الثوري، دعوهم واسمحوا لهم ليلتحقوا بالحرس ويكونوا في خدمة الإسلام. هذا واجب الأهل، ولكن ما هو واجب الأبناء؟ ان عليهم احترام آبائهم وأمهاتهم، ولأهمية هذه المسألة نلاحظ كيف أن كثيراً من التفاصيل في المسائل الأخلاقية لم تُذكر في القرآن، أما مسألة احترام الأهل فقد ذكرت مراراً وهذا يدل على مدى أهميتها… لذا نوصي الشباب: أن احترموا أهاليكم، وإن رأيتم أن مستوى فهمكم للأمور أعلى من مستواهم فلا تغتروا بذلك، لأن هذا الفهم والوعي الذي لديكم الآن لم يكن ليحصل لولا التحولات التي أوجدتها الثورة، وكونوا على ثقة بأن أولادكم أنتم سوف يصيرون أيضاً أفضل منكم وأكثر وعياً ولن تكونوا حينها في مستوى فهمهم، وسوف ترون اللامبالاة والفتور تجاهكم. فيجب أن يكون هناك التفاهم والانسجام سائداً بين الأهل والأبناء… فالأبناء يعاملون أهلهم بالحسنى، والأهل بدورهم يفسحون المجال أمام أبنائهم للتكامل والنضج، وأود أن ألفت النظر في هذا المجال أن خاطفي الأولاد من أهلهم اليوم كثر، وطبعاً لا أعني الخطف والسرقة للأطفال الصغار، وإنما أعني أولئك الذين يسلبون عقول وقلوب شبابكم. واليوم أيضاً نرى في مجتمعنا بعض الوقاحات التي زادت، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن ينالوا من مقام إمام هذه الأمة وقلب العالم الإسلامي النابض وأعظم ثوري في هذا العصر رغم ادعائهم الثورية.. أولئك هم سارقو عقول وقلوب شبابكم فاحذروهم وراقبوهم.
أريد أن أسال من هو ذاك الذي كان يقاتل في كردستان؟ هو نفسه الذي كان يتكلم اللهجة الطهرانية أو الأصفهانية أو المشهدية ثم يرمي القنابل والقذائف الصاروخية على قوات الحرس، من أين أتى هذا الشاب؟! من بيتي ومن بيوتكم!! ومن الذي جعله ينفر من الإسلام؟! من الذي أبعده عن الإسلام وإيران والاستقلال والثورة والجمهورية الإسلامية؟! دققوا وابحثوا كي تعرفوا من. وإن لم تعرفوا فالإمام قد عرفه لنا… هو عبارة عن تلك المجموعات من المنافقين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجاهدي خلق"، فكونوا على حذر منهم وراقبوهم كي تبعدوا أولادكم عنهم، وهذا لا يكون بإخفاء الأولاد وإبعادهم عن الساحة، أو بمنعهم عن المطالعة وقراءة الكتب؛ فهذه الأساليب غير ناجحة.. بل اسعوا لتعرفوا أبناءكم وبناتكم ولترشدوهم إلى النهج الحقيقي والصحيح للفكر الإسلامي والقرآني، إلى التيار المتعمق والمتخصص بذلك الفكر، أصحاب الفهم العميق بالقرآن والإسلام، أولئك الذين أمضوا أعمارهم في البحث والتدقيق والدراسة، هم الذين يستطيعون أن يمنعوا سارقي العقول من أن يعبثوا بأفكار أبنائكم ويحرروهم منهم، فهؤلاء المدعون لا يطرحون سوى "إسلام" التقاطي مقطع أربعين قطعة وكالأكلة المخبوصة، مؤلف من أفكار ملتقطة من كل مدرسة في هذا العالم أو تيار في الدنيا. ولهذا ترون أن هذه المجموعات الفاسدة والمنحرفة أشد عداوة للتيار العلمائي ولا تواجه فئة بالقدر الذي تواجه فيه فئة العلماء. واليوم في إيران فإن بعض العملاء والخونة والجناة يقولون انهم يريدون اقتلاع العلماء من الجذور! وأكثر من هذا فإن بعض الشباب الذين قاموا لمواجهة أمريكا والشاه، أيضاً فإنهم صاروا يتفوهون بنفس هذا المنطق! فما السبب الذي جعل هؤلاء يشنون الحملات على العلماء ويوهنون مقام "العالم"؟! السبب هو أن العالم العارف بالهداية ونشر الأصالة الإسلامية يستطيع بسرعة أن يفضح هؤلاء ويكف أيديهم وتأثيرهم فيقول لذلك الشاب ويؤكد له أن ما تسمونه "توحيد" مثلأ وتعتقدون أنه صحيح يشبه كل شيء إلا التوحيد! وإن ما ابتدعتموه من فلسفة وأفكار لا شأن لها بالإسلام. لذلك كله فإن هؤلاء العملاء يشوهون صورة العالم في أعين الناس. وهنا أشير إلى مسألة بخصوص العلماء ويعرفها الذين سمعوا خطاباتي وعرفوا أفكاري منذ سنوات عديدة، بأنني كنت من أوائل المنتقدين لبعض العلماء وأساليبهم الخاطئة وللمتظاهرين بذلك، وقد رفعت صوت النقد لهم في قلب الحوزة العلمية في مشهد أمام مئات الطلبة والفضلاء والمدرسين؛ ففي درس التفسير ذكرت هذا كي أؤكد بأني لا أريد أن أدعم وأروج بشكل مطلق لكل من وضع على رأسه العمامة، لكني أشعر بخطر كبير، هذا الخطر نفسه الذي ذكره الإمام وقلب الأمة الناطق الذي لا يرد عليه أحد. وقد أكد مراراً كثيرة هذا المطلب، وأنتم تعلمون أن هذه الثورة قد اشتعلت شراراتها الأولى على يد العلماء الذين هم محل ثقة الشعب، وانتشرت من مركز الحوزات العلمية إلى سائر أنحاء إيران. وهؤلاء العلماء هم الذين حفظوا فكر الثورة وحماسة الناس وثوريتهم ونهوضهم. إن فراشات شمعة هذه الثورة هي نفسها الخطب النارية التي أرشدت الشباب وحركتهم وانطلقت بهذه المسيرة فكانت محرك الثورة، كان هؤلاء العلماء يعبئون الجماهير ويشعلون حماسهم بآيات القرآن وخطب نهج البلاغة وبيانات الإمام، وكما تعلمون فإنه وبعد انتصار الثورة قد استلم بعض العلماء مسؤوليات ومهام حكومية بأمر من الإمام، وانطلقوا ليأخذوا المواقف الصلبة في مواجهة أمريكا وروسيا والتيارات الرجعية الوافدة إلينا من الخارج. ولو لم يؤد هؤلاء العلماء المجاهدون تكليفهم في هذه المواقع لما رأينا اليوم كيفية النظر إلى مسألة رهائن السفارة الأمريكية مثلاً بهذا النحو، وكذا مسألة التعاطي مع أمريكا.
لو لم يتصد العلماء لرأيتم اليوم المستشارين الأمريكيين يتجولون في الشوارع عندكم بحرية، هم وقتلة إخوانكم المظلومين، الذين مازالوا إلى الآن يتآمرون. فعليه، من قاوم منذ البداية هو العالم، ومن صمد قبل الجميع هو العالم. ولا أتعرض هنا لأحد، ولكن أذكر أين كانت مواقع الآخرين في هذه المواجهة. ما أقصده أن العلماء في هذا المجال كان لهم الموقع الحساس والمصيري، والأعداء أنفسهم يعرفون هذا، لذلك يريدون القضاء على العلماء. هل تعرفون من أطلق على حكومة الجمهورية الإسلامية اسم حكومة الملالي؟!عملاء الــ C.I.A. هم الذين قاموا بذلك من خلال المحطات الإعلامية في أوربا وأمريكا، فهؤلاء هم من وضع هذه التسمية المختلفة، وبعدها رأينا هذا الكلام نفسه يتكرر على ألسنة عناصر المجموعات في الداخل التي تسمي نفسها "الشعب" وأحياناً "الشعب الإسلامي" فانظروا وانتبهوا إلى طريقة ارتباط هذه الظواهر ببعضها. فعلينا أن نملك الوعي، وعلينا هداية شبابنا كي يتجهوا لطلب العلم ومعرفة الدين ونهج القرآن الصحيح ومطالعة الكتب. كل الدعايات والحملات الإعلامية التي بدأت بعد شهرين من انتصار الثورة واستهدفت الشخصيات العلمائية والتجمعات المرتبطة بالعلماء، كانت لهذه الأسباب التي ذكرتها، فلو كان الحزب الجمهوري معادياً للعلماء، ولم يكن العلماء عاملين فيه، لما تم محاولة تشويه صورته والتهجم عليه بهذا الشكل.
أمام هذا الواقع، يجب على الآباء والأبناء والأمهات والبنات أن يعرفوا كيف يواجهون وكيف يتّحدون أمام هذه الأحداث الجارية في حياتهم. في الماضي كان الخلاف سائداً بين هذين الجيلين، اليوم عليهم أن يتفقوا ويقفوا صفاً واحداً لمواجهة العدو بسلاح القرآن والإسلام. فعندما تضيعون الإسلام مثلاً (طبعاً هذه الأمة لن تفقد الإسلام على الإطلاق) عندها لن تكونوا قادرين على مقاومة أمريكا وقوتها، بل إن العدو يبدأ عندها بالنفوذ والغزو شيئاً فشيئاً، ولا يقول للأمة أنا أريد ظلمك وأن أكون دكتاتورياً عليك فاستعدي، بل ان ظلمه يتدرج بهدوء.. أنقل لكم، لأخذ العبرة، مقطعاً من تاريخ صدر الإسلام؛ فبعد زمن خلافة أمير المؤمنين وخاصة بعد شهادة الإمام الحسن (ع) أصبحت مدينة الكوفة مركزاً دائما للاضطرابات والفوضى بالنسبة للحكم الأموي، الذي عجز عن مواجهة الأمر (مثلما عجز نظام الشاه أمام مدينة قم، مدينة الدم والثورة)، فكان بنو أمية كلما عينوا والياً لهم على الكوفة تمرد عليه الناس، فيجد نفسه مضطراً أن يعود للخليفة الأموي خالي الوفاض، كي يقول له لا أستطيع أن أنفذ سياستكم وأنا مضطر أن أتوافق مع زعماء الشيعة كي تهدأ الأحوال.. أمام هذا الواقع انبرى الحجاج بن يوسف سفاح بني أمية المشهور وطلب من الخليفة عبد الملك بن مروان أن يوليه الكوفة، متعهداً له أن يحل المشاكل ويجعل الكوفة خالية آمنة من التوتر، فولاه الخليفة كما أراد، وكتب له كتاباً بذلك، فطلب الحجاج منه أن يخفي هذا الكتاب ولا يطلع عليه أحداً حتى يصل للكوفة ويرسله بذلك. فبقيت هذه المسألة سرية ولم ينتشر الخبر… رحل الحجاج إلى الكوفة مع عشرين فارساً مسلحاً من المحاربين الأشداء، دخلوا الكوفة خلسة قبل أذان الفجر، وتوجهوا إلى المسجد حيث كان الناس يتهيئون لصلاة الصبح وأكثرهم مشغول بالدعاء وقراءة القرآن، نشر الحجاج رجاله على أبواب المسجد ومداخله وطلب منهم أن يبقوا على استعداد دون أن يثيروا أي حركة. أما الحجاج فقد وضع عمامة حمراء على رأسه وتلثم، ثم دخل المسجد بدون أن يعرفه أحد، واعتلى المنبر بهدوء وجلس بدون أن يتكلم شيئاً وانتظر حتى احتشد المسجد بالمصلين الذين انتبهوا فجأة إلى وجود هذا الرجل الملثم الذي لم يعرفوه، (ولو كان ظاهراً لعرفوا كونه سبق أن حكم الكوفة)، فتوجهت الأنظار إليه بدهشة واستغراب، وغلامه واقف أسفل المنبر، وصاروا يتساءلون عن سر هذا الجالس الملثم الذي تدل علامات عينيه على القسوة والغضب، وكيف أنه يضع سيفه دون غمد على ركبتيه، ولم يكن إمام الجماعة قد وصل بعد… ولما رأى الحجاج أن الوقت صار مناسباً فالأنظار كلها متوجهة إليه باهتمام، رفع عمامته وأسدل اللثام عن وجهه وأنشد الشعر المشهور معرفاً بنفسه: أنا ابن جلى وطلاع الثنايا .....متى أضع العمامة تعرفوني فعرفه الناس في المسجد، وبدأ الرعب يدب في نفوسهم والأنفاس تتقطع.. أمر الحجاج عندها غلامه أن يقرأ على الملأ كتاب التنصيب للحجاج كوالٍ على الكوفة من قبل الخليفة.. بدايةً، الناس لم تأخذ هذه الرسالة على محمل الجد، فعاد الغلام ليصعد إلى الدرجة الأعلى من المنبر ويعيد القراءة مثبتاً التعيين ومعرفاً الناس على القرار… هكذا تسلل الحجاج بهدوء وتسلل هذا الدكتاتور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى ما اراد. واليوم على الأمة الإسلامية أن تنتبه وتفتح عينيها جيداً حتى لا تتكرر هذه الحوادث التاريخية مرة أخرى، فالديكتاتورية تأتي بالتدريج، وفي ذلك الزمان لو قاوم أهل الكوفة رجال الحجاج العشرين لمنعوا فيما بعد قتل آلاف الناس الأبرياء وزج الآلاف من الشيعة وذرية أمير المؤمنين في سجون الحجاج. الآن ما هو الشيء الذي نقوم به لمنع عودة التسلط الأمريكي في بلادنا؟! هل لدينا مناعة أو لقاح ضد هذا الميكروب كي لا يعود إلينا؟ ألم تشاهدوا ما جرى في الثورة الفرنسية الكبرى، فبعد انتصارها وتخلص الشعب من "سجن الباستيل" الذي كان رمز الظلم والاستبداد، وتحرر المعتقلون السياسيون واعدام الملك والملكة الظالمين ومصاصي الدماء وأصبحت الحكومة بيد الشعب الفرنسي. ولكن لم تمض عدة سنوات حتى عادت الدكتاتورية مجدداً، ولكن بواسطة "نابليون بونابرت" الذي كان جنرالاً عسكرياً فحكم بالحكم العسكري القاسي بعد أن كانت فرنسا مهد الحرية، وبعد هزيمة "نابليون" عادت مرة أخرى حكومة متسلطة، فحكم أبناء لويس السادس عشر (الملك المخلوع والمقتول) لأربعين سنة. هذا التاريخ أمامنا، احذروا ولو قليلاً أن يحدث ذلك معكم أيضاً؟ كونوا متيقظين، فما الذي يمنع ويضمن أن لا يتكرر هذا الأمر معنا؟! هناك عدة أشياء تستطيع أن تحفظنا، أهمها أن لا تضعوا في حسابكم إلا المقاييس والمعايير الإسلامية. إن أردتم أن تمنعوا عودة الظلم والتسلط إلى هذا البلد عليكم دوماً أن تراعوا وتحفظوا المعايير والضوابط الإسلامية، هذا أولاً. ثم عليكم أن تنهضوا وتتجهوا لفهم الإسلام ومعرفته وكذلك لمواجهة أعداء الثورة في جميع مجالات أعمالكم جماعة أو أفراداً، ثم التفطن والوعي العميق لكل ما يجري حولكم.
دار الولاية للثقافة و الإعلام