إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه!

الأحد 25 مارس 2018 - 16:52 بتوقيت غرينتش
إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه!

اي أن الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مُدَبَّر، ساعٍ إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المُدَبِّر لأمره، فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملًا...

آية الله السيد محمد حسين الحسيني الطهراني

قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ. (الإنشقاق/6 )

قال استاذنا الأعظم آية الحقّ و العرفان العلّامة الطباطبائيّ أعلى الله مقامه في تفسير هذه الآية الكريمة:

 "قال الراغب: الكَدْحُ السعي و العناء- انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثّر فيها انتهى- و على هذا فهو مُضَمّن معنى السير، بدليل تعدِّيه بإلى، ففي الكدح معنى السير على أيّ حال.

و قوله: فَمُلَاقِيهِ عطف على كَادِحٌ، و قد بيّن به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبيّة، اي أن الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مُدَبَّر، ساعٍ إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المُدَبِّر لأمره، فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملًا، فعليه أن لا يريد و لا يعمل إلّا ما أراده ربّه و مولاه و أمره به، فهو مسؤول عن إرادته و عمله.

و من هنا يظهر أوّلًا أن قوله: إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ يتضمّن حجّة على المعاد، لما عرفت أن الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبوديّة، و لا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤوليّة، و لا تتمّ مسؤوليّة إلّا برجوع و حساب على الأعمال، و لا يتمّ حساب إلّا بجزاء.

و ثانياً: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلّا حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.

و ثالثاً: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان، فالمراد به الجنس، و ذلك أن الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان». (الميزان في تفسير القرآن؛20/ 360).

قد أثبت أعاظم حكماء الإسلام أن بين ر بّ العزّة و بين مخلوقاته نوعاً من الجذب و الانجذاب يُعَبَّر عنه بالعشق.

و لا جَرَمَ أن حبّ الله لمخلوقاته هو الذي أوجدها، و ألبس كلّ واحد منها (كلٌّ حسب إمكانيّته و استعداده و ماهيّته المتفاوتة) لباس الوجود و البقاء، و وصف كلّا منها بصفاته حسب ما يتناسب معه. أن هذا الحبّ هو الذي أعطى العالَم كيانه و بقاءه و ديمومته، بِدءاً بالأفلاك و مروراً بالأرض و الذرّة إلى الدُّرّة، و جَعْلها كلّها موجودات تتحرّك نحوه و تشقُّ طريقها إليه.

و كذا حال حياتنا و معيشتنا في حركتنا نحو الله، فهي تمضي قدماً إلى لقائه بواسطة ذلك الحبّ و العشق الذي أوجده الله عزّ و جلّ في الخلقة و الفطرة. و على هذا فإنّ كلّ موجود من الموجودات الإمكانيّة يجد طريقه إلى الاستمرار في حياته و بقائه على أساس و أصل ذلك الحبّ للمحبوب، و هكذا يستمدّ قانون التجاذب (الجذب و الانجذاب) استمراريّته بين جميع المخلوقات السفليّة (الدنيا) و العوالم العُلويّة.

إن هذا التجاذب المستقرّ في كلّ موجود و بشكل معيّن، هو السبب في تكوين و إنشاء تلك الحركة المُتَّجِهة نحو المبدأ الأعلى عبر مدارج و معارج متباينة، و هو السبب في ذلك الحبّ الذي يدفع بجميع العاشقين إلى التحرُّك باتّجاه ذلك المحبوب و السير نحوه بوساطة ذلك الحبّ، من دون حجاب أو من وراء حجاب على السواء. و كلّ ما في الأمر أن الموجودات الضعيفة و الماهيّات السفليّة تتعرّض خلال سيرها لتأثير شديد من قِبَل قوي أشدّ منها نظراً لصفة المحدوديّة الموجودة في وجودها، و هو ما يتسبّب في فَنائها هناك. و طبقاً للقاعدة القائلة: (الأقرب فالأقرب)، فإنّ أيّ موجود عالٍ هو غاية السير عند الموجود و المعلول الأدنى منه، حتى يصل إلى ذات الحقّ و المُصَدِّر المطلق، و الذي هو الموجود الأوّل العظيم اللامتناهي في عالم العوالم، حيث يفني فيه و تتحقّق عند ذاك عمليّة التحابب و التعاشق بين الحقّ سبحانه و تعالى و بين ذلك الموجود.

و قد عُبِّرَ في هذه الآية الشريفة الكريمة عن تحرُّك الإنسان نحو هذا المحبوب ذي الجمال و المعشوق صاحب الجلال، و هو الهدف النهائيّ و المقصد الرئيسيّ، بالكدح.

و معنى ذلك أنّه يتوجّب على الإنسان- و هو أشرف المخلوقات استعداداً- أن يُوصِلَ ذاته و نفسه إلى الفَناء التامّ بالفعل.

فهنالك مَن حالفهم الحظّ و وصلوا، و هنالك من أضاعوا استعدادهم و ضيّعوا عدّتهم، و فشلوا في أن يجدوا مأمناً و أمناً في حرم أمنه، و عجزوا عن الاستقرار في ظلّه، و لم يفلحوا في اجتياز موانع الصراط و الدخول إلى حضرة جلاله، و سيلتقي كلّ منهم به و يتلاقي معه و سيصلون إلى محبوبهم الحقيقيّ من وراء ألف حجاب، و عندها سيوقنون بأنّه هو وحده غاية مرادهم و حبيب قلوبهم، و كلّ ما في الأمر، أنّهم في دنيا الشهوات الدنيّةالتي أعشت عيونهم، لم يروا جلاله، و ها هم، يصلون بعد الحُجب لملاقاة ربّهم عزّ و جلّ.

المصدر: كتاب معرفة الله