إنّ قراءتنا لأنصار الحسين عليه السلام ترتبط في واقعها بقراءة واقع أصحاب المهدي عليه السلام الذي سترتبط مهمّته الإلهيّة عند قيام دولته المباركة بواقعة الطفّ المفجعة، ومن ثمّ سيكون هناك تشابه في مهمّتي الثورتين.
إن الإمام المهدي (عج)ـ حسب تواتر الأخبار ـ سيكون شعاره في حال ظهوره المطالبة بدم الحسين عليه السلام ودماء أهل بيته الذي استشهدوا في كربلاء، وسيكون الإمام المهدي مُطالِباً بثأر الحسين عليه السلام من قتلته الذي تصرّفوا في مصرعه بأعمالٍ بربريّةٍ لا تخطر على بال أحد، أي أنّ الإمام المهدي عليه السلام سيطالب القتلة بدم جدّه المظلوم على أساسٍ تنظيري يوظّفه لإعلان أُطروحته العادلة التي جاءت على أنقاض الظلم والعدوان، ولا تجد مصداقاً من المظلوميّة التي يمكن أن تكون شعاراً لكلّ مظلوميّة على مديات التاريخ كمظلوميّة الإمام الحسين عليه السلام، وسينعى المهدي عليه السلام جدّه الحسين عليه السلام ويبكي مصرعه على الملأ من النّاس الذين سيكون من بينهم شيعته، وعدوّه، أو من التزم موقفاً حياديّاً لما يعانيه من العيش في منطقة الفراغ المعرفي الذي يعانيه جيل من الشباب، بل من الذين انعزلوا عن معرفة الواقع التاريخي والمسلّمات العقائديّة التي تُعدّ ضرورة التكليف.
وإذا نادى الإمام المهدي عليه السلام بمظلوميّة جدّه الحسين عليه السلام وأعاد مظلوميّته إلى الأذهان، فعند ذلك ستتحرّك مشاعر شيعته ومواليه، وسينشدّون لمناصرته ومؤازرته، وسيحاجون خصومه ومخالفيه الذين تمسّكوا برؤيةٍ تخالف رؤية الإمام عليه السلام، وسوف لن تكون لهم الحجّة عند ذلك، بل الحجّة عليهم. أمّا الذين كانوا حياديي الموقف والنظرة فلا بدّ لهم من الخضوع للواقع، والجدّية في التعامل مع الأحداث لتأسيس قناعاتهم حينئذٍ من جديد.
وإذا كان الأمر كذلك فسيُعلن الإمام المهدي عليه السلام اُطروحته المبنيّة على العدل والمناداة بالسلام.
إذن، فالواقع التغييري الذي ينتهجه الإمام الحجّة عليه السلام، والذي يشمل بُنى الحياة المنطلقة من الواقع التغييري السياسي ـ كما انتهج جدّه الحسين عليه السلام عند خروجه ـ سيحتاج إلى (إمكانيّة استثنائيّة) كذلك قادرة على استيعاب أوامر الإمام عليه السلام وخططه في تحرّكاته الميدانيّة ومواجهاته العسكريّة. ولا بدّ لهذه المواجهة الجديدة والتحرّكات الاستثنائيّة بقيادة الإمام المهدي عليه السلام من حاجةٍ إلى أصحاب ومناصرين من طرازٍ خاصّ كذلك، يحتملون المهمّة ويؤدّون المسؤوليّة على أحسن وجهها. ومعلومُ أنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام خرقت الواقع الفاسد المعاش، والذي تعانيه الاُمّة إثر سياسات التمييع التي فشلت إبّان حكوماتٍ هدفت إلى شلّ العقل الإسلامي حتّى أنّه لا يعي ما يجري حوله، وبالتالي لا يستوعب ضرورة التغيير، وهذه إحدى أسباب نكسة العقليّة الإسلاميّة التي مُرِّرتْ من خلالها مشاريع الأُمويّين، ومن ثَمّ العباسيّين حتّى تفشّى وباء ذلك إلى العقليّة الحاضرة.
أي أنّ الإمام الحسين عليه السلام كانت ثورته خلافاً لما اعتاده العقل الإسلامي وقتذاك، والذي يرى ضرورة تجنّب أيّة محاولةٍ إصلاحيّة، بل كان يرى مناصرة السلطان وإعطاء البيعة لأيّ عنوان كان، بغضّ النظر عن مشروعيّة هذه العناوين وصلاحها، كما حدث مع معاوية وابنه يزيد ومن قبلهما، ومعنى ذلك أن يُغاير الإمام الحسين عليه السلام في مسيرته الاصلاحيّة مجتمعاً خانعاً لا يقوى على اُطروحته عليه السلام، بل يرى ذلك خروجاً على السلطان الذي يجب التعايش معه إن لم تكن مناصرته على أقلّ تقدير، وبالفعل كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام خرقاً للعقليّة الإسلاميّة النخرة التي ترِثُ تقاليد الخنوع للسلطان، وبالتالي فإنّ هناك مقاومةً شديدة ضدّ مشروع الاصلاح الحسيني يقف من ورائها أصحاب المطامع والمصالح الخاصّة، والهمج الرعاع من النّاس، فضلاً عن سكوت المتخاذلين الذي يشكّل حقيقة معارضةً خاصّة، هكذا كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام تنطلق على أنقاض أزماتٍ روحيةٍ يعانيها مجتمع خانع، ورؤىً تتجاذبها سياسات المصالح والمطامع، وبالتالي فإنّ ثورته عليه السلام ستكون كسراً لطوق التقليديّات التي أودت بالقيم الحقّة.
من هنا تعرف استثنائيّة القائد لا استثنائيّة الموقف، وبالتأكيد فالحاجة إلى أنصارٍ استثنائيّين باتت ضرورة ملحّة في مثل هذه الظروف، وسيتبيّن لنا بالفعل استثنائيّة هذه الثلّة عقيدةً ووفاءً وتضحيةً. هذه هي حالات وظروف الثورة الحسينيّة، وبالتأكيد ستكون حالات وظروف الثورة المهدويّة مشابهة لها؛ لتشابههما في الهدف والوظيفة.
وبهذا فستنطلق ثورة الإمام المهدي عليه السلام من بين منعطفاتٍ اجتماعيّة، وتدافعاتٍ سياسيّة أسّستها رؤى المصالح الشخصيّة لذلك الفرد أو لتلك الجهة، وبالتأكيد فإنّ ثورته عليه السلام تأتي على أنقاض القيم ـ وإن كانت منحرفة ـ إلاّ أنّها السائدة اجتماعيّاً والمتعامل بها عرفاً، وخلافها يُعدّ خروجاً على المألوف.
على أنّ الثورة المهدويّة ستكون في حالات مخاضٍ صعــب ممّا واجهته ثورة الإمام الحسين عليه السلام، فقرب العهد النبويّ، وحلول المعصوم بين ظهراني الاُمّة أفرز مفهوماً عامّاً وهو الارتكاز لدى الجميع على مشروعيّة الثورة، إلاّ أنّ هذا الارتكاز يتذبذب وفقاً للمصالح الخاصّة التي يحوزها الأفراد، ولا ننسى ما كان من شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر والحجّاج بن عمرو الزبيدي وأمثالهم الذين راسلوا الإمام الحسين عليه السلام بالمجيء والاستجابة لاستغاثتهم واستصراخهم، إلاّ أنّ معادلات مصالحهم الخاصّة حكمت لصالح تراجعهم وخذلانهم الإمام عليه السلام. في حين تواجه ثورة الإمام المهدي عليه السلام موجة محتدمةً لتيارات سياسيّة ودراسات فكريّة عالميّة اقتضت مصالحها التثقيف على تصدّي هذه الثورة ومحاولة إحباطها، والتعبئة لمواجهتها بكلّ الوسائل والأدوات، وما نشأ ويُنشأ من تحالفات من أجل التصدّي لهذا الانطلاق المهدوي أوجد حالات تحفّز لدى المعسكر الآخر للهيمنة والقوّة على أتباع الفكرة المهدويّة وإلغائهم، بل شلّ تحرّكاتهم وتهميش أدوارهم بشكل مؤسف حقّاً.
من هنا كان أنصار الإمام المهدي عليه السلام وأتباعه من اختيارٍ خاصّ يُهيّؤهم لاستيعاب المهمّة التي سوف تنسف معها مفاهيم القيم الاجتماعيّة السائدة ذات الممارسات العالميّة المنحرفة التي تُعدُّ في حقيقتها سياسة عالمٍ ابتلي بمعادلات المصالح على حساب القيم.
إذا تبيّنت لنا المقارنة بين الثورتين ودواعي قيامها أمكن لنا معرفة وحدة الخصوصيّة والهدف، واستطعنا أن نقرأ ظرفيهما بمفهوم واحد، وكأنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام إرهاص لثورة المهدي عليه السلام، أو أنّ الثورة المهدويّة هي إعادة للثورة الحسينيّة بعالميّتها وشموليّتها. ولقراءة مقطعٍ واحدٍ من مقاطع الثورتين سنجد التقارب أكثر وضوحاً، والمعالم أكثر تشاهداً، وستمثّل قراءة الأنصار إحدى المشتركات بين الثورتين.
أوّلاً: عالميّة الإنتماء وإلغاء الحدود الإقليميّة التي تمثّل حاجزاً مهمّاً في الانتماءات المعرفيّة لأيّة ثورة إصلاحيّة، في حين تُلغى هذه الجغرافية السكّانيّة بكلّ حواجزها لتفتح حدودها للإنتماء العقائدي فقط.
فالخارطة الجغرافيّة لأنصار الإمام المهدي ستتلوّن بمختلف الانتماءات السكانيّة وانتساباتها المعرفيّة تؤكّد عالميّتها وتعدّديّتها في الانتماء.
فالإحصائيّة الرسميّة الواردة في روايات الظهور تشير إلى تلك الجغرافية السكّانيّة المتعدّدة، فهي لا تقتصر على الهويّة الإقليميّة فقط بقدر ما تدخل في انتساباتها عالميّة الانتماء، فمن العراق ومصر وسورية وفلسطين والأردن واليمن والحجاز هذا على النطاق العربي، وايران والهند وتركيا والصين ودول آسيا الوسطى، فضلاً عن الدول الغربيّة كذلك، كما هو صريح الروايات.
ثانياً: لم تقتصر دعوة الإمام المهدي عليه السلام حين الانتساب إليها على مستوى طبقي، بل ـ ستضمّ ـ في تشكيلاتها طبقيات متعدّدة، فبين أثرياء العالم ومموّلي المشاريع العملاقة إلى الفقراء المعدمين الذي حُرموا من أبسط الحقوق الإنسانيّة ومزاولتها، إلاّ أنّ المشتركات ستكون واحدة، ووحدة الهدف تُلغي معها الفوارق الطبقيّة والسكّانيّة.
ثالثاً: سيكون للمرأة حضورها الفاعل في تشكيلة أنصار الإمام المهدي عليه السلام، كما في بعض الروايات، وعدّت بعضها ثلاث عشرة امرأة، والظاهر أنّ تلك المعدودات ستكون بمثابة القائد الاُنموذج لانتساب الاُخريات لهذه الحركة التغييريّة المعصومة. ممّا يعني أنّ المرأة لا يُلغى دورها ولا يهمّش، كما اعتقده البعض قياساً بالحركات الاصلاحيّة الاُخرى، التي حاولت استبعاد المرأة وتهميشها باُسلوب لا يحفظ لها شخصيّتها التغييريّة، بل تحاول بعناوينها الخاصّة أن تشرك المرأة بشكل تشريفي أكثر من كونه حقيقياً فاعلاً، في حين أولت حركة الإمام المهدي عليه السلام اهتمامها الخاصّ في التعبويّة النسويّة بما سيترك آثاره على مسيرتهنّ في ظلّ المهدويّة المباركة.
رابعاً: تعدّديّة الانتماء المعرفي سيشكّل فارقاً هامّاً في الحركة المهدويّة، فالانتساب المعرفي لأنصار الإمام المهدي عليه السلام أمر تحتّمه ضرورة عالميّة الحركة المهدويّة، فهي لا تقتصر على الثقافات الخاصّة ذات الاُطروحات الناضجة الرشيدة، بل ستضمّ فيما تضمّ ثقافات تستوعب ضرورة الحركة الاصلاحيّة المهدويّة بشكل مجمل غير مهتمّة بالتفصيلات بقدر ما هي مهتمّة بضرورة الطاعة والاستجابة لنداء الإمام عليه السلام والتسليم لأطروحته الإلهيّة، وتبقى تفاصيل فلسفة الحركة المهدويّة على عاتق الطبقة المثقّفة من الأنصار، وبذلك ستضمّ التشكيلة المهدويّة في انتماءاتها تعدّدية الثقافة والاتّجاه، إلاّ أنّها ستشترك في قواسم مشتركة واحدة وهي طاعة الإمام عليه السلام، وتنفيذ أوامره، والتسليم لاُطروحته.
فستجد المثقّف المنتمي لثقافاته الأكاديميّة إلى جنب الرؤية الحوزويّة، فضلاً عن جمهور ثقافة الفطرة في ولاءاتها ومعرفتها البسيطة.
وهكذا هم أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ضمّت تشكيلتها مختلف التطلّعات الثقافيّة، فمنهم المحدّث الصحابي، والقارئ والخطيب والمفوّه، والأعرابي الذي نزل منازل جهينة وأمثالها البعيدة عن مدنيّة المدينة أو حياة مكّة، أو حضارة الكوفيّين، أو ثقافة البصريّين المتميّزة بثقافاتها الجادّة ـ وإن كانت قد تطوّرت هذه الخلافات الفكريّة إلى مناهج سياسيّة صنّفت على إثرها ثقافات البصريّين وتوجّهاتهم عن الكوفيّين وعقائدهم، وليس هنا محلّ بحث إثارة المقارنة ـ وسيكون هذا التلوّن الثقافي والاختلاف التعليمي سبباً في تشكيلاتٍ ثقافيّةٍ جادّة تقنّن حسب آلياتها الفنّية الخاصّة بها، إلاّ أنّها ستصبّ في الهدف المهدوي العامّ.
خامساً: شموليّة الثورة المهدويّة وعالميّتها لا تعني المستوى الجغرافي أو التعدّديّة السكّانيّة فحسب، بل أنّ شموليّة المعتقد والانتماء الديني سيكون في طليعة هذه التوجّهات في مفاهيمها؛ لتكون الحضارة السائدة على أنقاض (حضارة) الارهاب التي ظنّ بعضهم أنّها الطريق الموصل للهدف، وبالعكس تُظهر الاحصائيات العامّة أنّ الحوار هو حضارة الإنسان، أي أنّ الثقافة الإنسانيّة المشتركة ستكون إنسانيّة الإنسان الذي يؤثرها الحوار الحضاري بين الاُمم والأديان والمذاهب، وإذا سادت هذه الحضارة من الحوار وكشف الحقائق فسيتسنّى لأكبر عدد من التطلّعات الثقافيّة والتوجّهات الدينيّة الانخراط في وحدة ثقافيّة متكاملة، فضلاً عن ذوي الديانات الاُخرى والمذاهب الإسلاميّة الباقيّة.
فالأخبار تشير إلى نزول عيسى ابن مريم ظهيراً للإمام المهدي عليه السلام ودعوته للانضمام إليه، وستكون أفواج أتباعه عليه السلام قد دخلوا الإسلام كتحوّلٍ فكري عقائدي حتمي، وهذا ما حدث فعلاً لأبي وهب الكلبي النصراني الاُنموذج الذي دخل في دين الله على يد سيّد الشهداء عليه السلام، وتحوّل سيّداً شهيداً يتبوّأ مكانة الشهداء الباقين، ومعلوم أنّ أبا وهب الكلبي نموذج واحد لقراءة سيرة تاريخ حسيني ورؤية مستقبل مهدوي.
هذا شأن الديانات الاُخرى، فما حسبك بالمسلمين الذين قرأوا الواقع السياسي قراءةً معكوسة، فانضمّوا إلى تحالفات غير موافقة لأهل البيت عليهم السلام، إلاّ أنّ باستصراخ الإمام الحسين عليه السلام ومحاججاته البليغة منَّ الله عليهم بالهداية والتحوّل إلى رحل الخلود وقافلة الشهداء، بعدما رأوا زيف ما هم فيه، وهكذا هي الاُطروحات الاُخرى فستكون داعية الانتماء للإمام المهدي عليه السلام إبّان الاطّلاع على دعوته والتوجّهات الإلهيّة، خلاف ما عملت الجهود المناوئة لأهل البيت عليهم السلام من قلب الحقائق ومصادرة القيم المهدويّة بإعلام يكشف عن الدجل والخيانة العلميّة لكثير من الحقائق التي تتعامل هذه الجهات مع أتباعها.
المصدر: مجلة الإنتظار