السيّد عبّاس نورالدين
أيّها الآباء والأمّهات والمربّون، توقّفوا قليلًا! هل فكّرتم بالهدف من وراء تعلّم اللغة العربية؟
ما نفع أن يدرس أبناؤنا هذه اللغة الجميلة لمدّة اثني عشر عامًا، ومع ذلك لا يجدون أيّ انجذابٍ للغة القرآن والنّصوص الرّائعة المنقولة عن أئمّة الدّين؟
هل فكّرتم ماذا يحدث في المدرسة؟ ولماذا لا يستسيغ أكثر الطلّاب لغةَ القرآن الكريم ولغة الأدعية الرّائعة الواردة في الصّحيفة السجّاديّة مثلًا؟
أيّ حرمانٍ يمكن أن يكونوا قد وقعوا فيه إن هم انقطعوا عن المصدر الوحيد للسّعادة البشريّة والرّوحانيّة العظيمة والفكر العميق؟
هل نعتبر هذا الحرمان أمرًا طبيعيًّا أو شيئًا لا مفرّ منه، حتّى استسلمنا جميعًا لهذا المصير؟ أم لا بدّ من القيام بشيء في هذا المجال؟
لماذا أصبحت اللغة المتطوّرة قديمة واللغة الركيكة والضّعيفة لغة العصر؟ ألا يمثّل هذا تراجعًا في الحياة الفكريّة والمعنويّة وفي إمكانات الإنسان؟
فاللغة هي أهم مظاهر التّقدّم الإنسانيّ، وحين تتراجع فصاحة النّاس وبلاغتهم، فهذا يعني أنّهم يتراجعون في كلّ شيء وإن تقدّموا في استخدام الآلات.
الفصاحة تدلّ على المعرفة، والبلاغة تدلّ على الذّكاء، واللغة هي أداة التّعبير الحتميّة عنهما. ولغة القرآن هي اللغة الأعلى فصاحةً وبلاغةً. وهذا ما كان يحيّر العرب حين نزل القرآن، لأنّهم كانوا أمام تقنيّة تفوق قدراتهم في البلاغة والفصاحة. هذا، رغم أنّ لغتهم في ذلك الزّمان كانت الأقل تهشيمًا مقارنةً بما حصل فيما بعد.
لو أردنا أن نقرّب القضيّة إلى الذّهن، يمكن أن نقول أنّ العرب كانوا يشاهدون رسول الله صلّى الله عليه وآله وكأنّه جاء بدبّابة حديثة وهم لا يمتلكون إلا السّيوف. فقد كان الأمر أشبه بقدرة عظيمة نزلت عليهم من حيث لا يعلمون.
لن أتحدّث عمّا حدث بعدها، ولماذا اتّخذ قوم النبيّ هذا القرآن مهجورًا، وما الذي أوصلنا إلى العجز عن تقديم لغة القرآن والصّحيفة ونهج البلاغة والتّمهيد لها، رغم ما لدينا من إمكانات تعليميّة مهمّة؛ فهذا يحتاج إلى عرض التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة التي جرت بعد رسول الله (ص) وإلى الحديث عن الاستعمار الحديث وما جلبه علينا. لكن الأمر الذي يمكن أن نتّفق عليه اليوم هو شعورنا بأهمّيّة هذه المصادر اللغويّة ودورها المصيريّ في حياتنا الدّنيا وفي الآخرة، وإن اختلف مستوى وعينا ومعرفتنا بهذا الدّور ودرجاته.
سمعت ذات يوم من يقول أنّ في القرآن الكريم خمسين ألف مفردة، وهي تتفاخر بأنّه الأغنى بين جميع اللغات! لكن الحقّ أنّ في القرآن ما يعادل 1130 مفردة فقط.. وإنّما استطاعت هذه اللغة العجيبة بما لديها من إمكانات تفعيليّة مدهشة أن تجعل من هذا العدد القليل من المفردات أساسًا لكتاب لا حدّ لعظمته وآياته! وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ قوّة اللغة العربيّة ليست في محفوظاتها (وهذا ما يشعر به كل من يدرس الإنكليزيّة مثلًا، حيث تستمر المفردات بالتّكاثر دون توقف)، بل في المنظومة التقنيّة الموجودة فيها والتي تعتمد على عمليّة التفعيل.(1)
ويُعدّ هذا الأمر أحد أهم أركان قوّة اللغة، حيث توفّر لنا فرصة الذّكاء والبيان والمعرفة بأيسر طريقة.
تصوّر لو أنّك عرفت دور كل تفعيلة في تقديم معنًى جديد وأدركت أصول كلّ المفردات؛ فسوف تصبح أذكى النّاس وأكثرهم معرفة!
لا ينبغي أن نغفل عن الدّور المعرفيّ والعقليّ للقرآن، ولكلّ مصدر اتّصل به اتّصالًا علميًّا ونفسيًّا وبيانيًّا مثل نهج البلاغة. فنحن أمام قدرات وإمكانات لا يمكن أن تقارَن بها كلّ العلوم التي أتى بها النّاس منذ فجر البشريّة وإلى يومنا هذا. فما أشدّه من حرمان هذا الذي نعيشه بعيدًا عن هذه المصادر، وما أشدّ تقصيرنا.
نمتلك مثل هذه القدرات العظيمة، لكنّنا عنها غافلون! فتعلموا العربية و علموها الناس!
(1)ملاحظة نموذجية: رغم أنّ شاهد وشهيد من أصل واحد وهو شهد. لكن فاعل وفعيل يقدّمان زيادات مختلفة على الأصل (فعل)، فيزيدان من المعاني. وهناك عشرات التّفعيلات الأخرى التي تقدّم كلّ واحدة منها معنًى إضافيًّا على الأصل. كفعّل وفعول و...
المصدر: موقع إسلامنا