السيد عباس نورالدين
عنوانٌ يحمل في الصياغة الإنجليزية معنًى آخر هو "واشنطن تحكم"، ينطلق فيه الكاتب أندرو ج. باسيفيتش وهو عقيد متقاعد وأستاذٌ جامعيّ مرموق في التّاريخ والعلاقات الدوليّة في جامعة بوسطن، من اكتشافٍ حدث له، أبان سقوط جدار برلين، حين انتقل مع بعض زملائه إلى القسم الشرقيّ من العاصمة؛ ليتعرّف هناك على حجم الجهل الذي كان يعيشه، والذي أوقعته فيه المؤسّسة التي خدم فيها لأكثر من عشرين سنة. كان حينها ينظر إلى العالم بمنظار الأبيض والأسود ووفق القيم والمعايير الأمريكيّة التي أصبحت بالنسبة لمعظم الشّعب الأمريكيّ من المسلّمات التي لا تتعرّض للمساءلة والنقاش.
هناك ينطلق لمحاولة فهم ما جرى ما بعد الحرب العالمية الثانية وكيف رُسمت السياسات والاستراتيجيّات على أُسُسٍ واهية تخدم مصالح نُخبة من البيروقراطيين والحكّام الذين مثّلوا الإجماع الواشنطونيّ وتحكّموا بالمبادئ العامّة للتّعامل مع العالم، والتي انطلقت من العسكرة والبوليسية والهيمنة وفرض القيم بالقوّة مهما بلغت.
يدرس "باسيفيتش" مسار تشكل هذه السياسات، ويحدّد ثالوثًا قامت على أساسه تلك السّياسات طيلة العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، والتي شكّلت مرحلة خروج الولايات المتّحدة من عزلتها أو حياديّتها تجاه ما يجري في العالم؛ لتعتبر نفسها مسؤولة لا عن أمنه واستقراره فحسب، بل عن قيادته أيضًا.
هذا الثالوث المقدس، كما أسماه البروفسور، عبارة عن :
1. المحافظة على تواجد عسكريّ عالميّ؛
2. القدرة على استعمال هذا التّواجد مهما أمكن؛
3. وسياسة التدخّل العسكريّ.
وكما نلاحظ، فإنّ الثّالوث، الذي تعرّض "باسيفيتش" لمراحل تشكّله وتبلوره، حتّى صار العقيدة القتاليّة، لا للجيش والقوات المسلّحة والمخابرات المركزيّة فحسب، بل لحكّام واشنطن الذين أضحى حكمهم مشروطًا بتقديم الولاء له، أضحى كالإطار العام لجميع السياسات والحاكم الكلّي على أي نظرة تجاه الآخر.
تشكّل إجماعٌ على أساس هذا الثالوث لم يتزلزل منذ عهد الرّئيس "هاري ترومان" وإلى "باراك أوباما"؛ وذلك لأنّه مثّل القوانين التي تحكم واشنطن على أساسها.
وقد حدّد الكاتب أنّ هدفه من هذا الكتاب هو دراسة منشأ هذه القوانين والتطوّر الذي مرّت فيه وتحديد عواقبها؛ وكذلك من سيربح، ومن سيخسر في النهاية، ومن الذي يدفع الضريبة والثّمن؛ وكيف يتم إعمال هذه القوانين التي، من وجهة نظره، خسرت مصداقيّتها وقدرتها على الاستمرار بالمصالح الأمريكيّة.
إنّه الخوف نفسه من أمريكا عسكريّة الذي يحرّك "أندرو باسيفيتش" اليوم. "باسيفيتش" يدين بقوّة هذه العسكرة ويقول أنّها أصبحت روتينًا غير ملتَفت إليه في حياتنا اليوميّة، وأنّ الأمر سيزداد سوءًا مع استمرار الحرب الأمريكيّة في أفغانستان وما يليها. هو يهاجم بعنف ما يسمّيه "عقيدة ما بعد الحرب الأمريكية"، التي "أصبحت مترسّخة في اللاوعي الجماعي الأمريكي". "قوانين واشنطن" هي هجومٌ محبوك، ذكيّ ومثير ضدّ ستّين عامًا من السّيطرة العسكرية الأمريكية.
يضع باسيفيتش نصب عينيه هدفين:
الأوّل: يتمثّل بالمفوّضين في مؤسّسات الأمن الوطني الذين يخلّدون قواعد واشنطن الخاصّة بالسّيطرة على العالم. ولا يقصد بـ "واشنطن" الحكومة الفدراليّة فحسب، بل مجموعة حكّام الولايات الذين حصلوا على السلطة والمال والمقام نتيجة لحالة الطوارئ المستمرّة: كمتعاقدي الدّفاع، والشركات، والمصارف الكبيرة، وشبكات التلفزة، والنيويورك تايمز. هو يشتكي بأنّ موافقة واشنطن غير المدروسة على القتال العالميّ هي بالقوّة نفسها في الاتّجاه السائد عند كلٍّ من الديمقراطيين والجمهوريين. "وكل من ينشق عن هذه النظرة الأحادية، كأمثال "دينيس كوشنيك" أو "رون بول"، سرعان ما يتم صرفهم على أنّهم معتوهين"، يقول باسيفيتش؛ ممّا يغيّب أي مراجعة حقيقيّة أو توازن في مواجهة دولة الأمن القوميّ المتعجرفة.
أمّا الهدف الثاني لباسيفيتش فهو: الجمهور الأمريكيّ الغافل، الذي لا يلتفت للسياسة الخارجيّة سوى عند حصول كارثة ضخمة يصعب تجاهلها، كما حصل في فيتنام والعراق. وبتعبيره: "فإن مواطني الولايات المتّحدة الأمريكيّة قد خسروا كلّ قدرة على طرح أسئلة ابتدائية حول أُسس سياسة الأمن الوطني".
باسيفيتش يعرّي بشكل استثنائي، استعداد الجمهور الأمريكيّ لتجاهل الذين يحاربون من أجلهم؛ ويحذّر من انتزاع لبّ الحضارة المدنيّة، الذي ينتج عن إلقاء ثقل الحروب المستمرّة على كتف مجموعة من الجنود، في حين تدّعي الغالبية العظمى من المواطنين تقديرها لهذه المجموعة، رغم تجاهلها لها أو حتى تحقيقها مكاسب على نفقتها. وهنا لباسيفيتش الحقّ في أن يُسمَع كون ابنه، النقيب "اندرو باسيفيتش الابن"، قد قُتل في دورية مقاتلة في العراق في 13 أيار 2007 . باسيفيتش لا يتعرّض لخسارته المأساوية في هذا الكتاب، لكنّه كتب في حينها رسالة مفجعة نُشرت في "واشنطن بوست" جاء فيها: "سيقول الخطباء في يوم الذكرى أنّ حياة الجندي الأمريكيّ لا تُقدّر بثمن. لا تصدّقوهم! أنا أعرف القيمة التي تضعها حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة لحياة الجنديّ الأمريكيّ، لقد تلقّيت شيكًّا بها!" باسيفيتش، هنا، لا يبدي اهتمامًا كبيرًا بالسّياسة الخارجيّة (هو يقدّم فقط ملاحظات سريعة حول أهداف وإمكانيات بلدان كالصين، وروسيا، وكوريا الشمالية وإيران) كاهتمامه بالحديث كيف أنّ العسكرة أفسدت أمريكا.
بأسلوبه الشعبيّ، يرى باسيفيتش نفسه كساعٍ لتحديث معتقدٍ تقليديّ ـ من جورج واشنطن وجون كونزي آدم وصولًا إلى ويليام فولبرايت ومارتن لوثر كينغ ـ يُطالب أمريكا بأن تكون نموذجًا للحرّيّة لا أن تسعى لنشرها فعليًّا. هو ليس معتقدًا يتبنّاه كلّ أمريكي لكنّه المعتقد الضروريّ لإبقاء البلاد على السكّة الصحيحة.
المصدر: موقع إسلامنا