تسامى الفكر الإسلامي الأصيل ،عبر حقب التأريخ المتفاوتة ، فوق كلّ التيّارات والنظريّات والمقولات والنزعات ، التي أرادت إجهاضـه وشـطبه ، عزله وتهميشـه ، تشويهه وتحريفه ، فبقي مُمسكاً بخيوط الخلاص البشري ؛ لغناه الايديولوجي ذي الشمولية المترامية والتكيّف المشـهود .
وحينما نخـوض اليوم مواجهةً حضاريةً كبيرةً على صُعد شتّى ، كـ نظام العولمة ونزعة التكفير وغيرهما ، فلا ريب أنّنا نتعرّض لإرهاب فكري ، منظّم أنيق جميل تارةً ، و قبيح خشن مشوِّه تارةً أُخرى .
فهو على كلا الحالين معتركٌ معرفي ثقافي مثير ، وصراع عقائدي يستنهض النهج القويم ، والقراءة الواعية ، والاستنباط الفطن ، والعزم الأكيد ; كي يكون خطابنا مستوعباً لظروف المرحلة ، ومتفوّقاً فيها .
ويطرح الأوّل ، المتلبّس بالأناقة والجمال « مفهوم العولمة » كمنهج وأُسلوب واستراتيجية في خوض المنافسة وإنهائها لصالحه .
فهو يتّخذ ـ أحياناً ـ من الإثارات الشعورية وتنشيط الرغبات الحسّية والمتطلّبات الحياتية ، كـالحرية والديمقراطية والرفاهية ، سبيلا يخترق به الحنايا والأعماق ؛ ليسهل حينها بذر نواة الهيمنة على العقول والأذهان ، فيسلبها فرصة التفكير العقلاني الواعي الرافض للرؤى المستوردة الرخيصة ذات المضامين المادّية المضلّة.
والإجماع منعقدٌ على كون هذا الأُسلوب من أرقى أساليب مفهوم العولمة ، وأفتك أسلحته التي تجعله ممسكاً بزمام المبادرة .
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ مصطلح « العولمة » يرجع في جذوره ـ كما يقال ـ إلى مفهوم القرية الكونية ، الذي استنبطه أُستاذ جامعة تورنتو : « مك ليوهان » في الستّينات من استدلاله للحتمية التكنولوجية ، القائم على قاعدة التقدّم الكهربائي ـ الألكتروني ، المبشّر بقدوم عالم دعامته الأساسية التمدّد الآلي لحواسّ الإنسان ـ التكنولوجيا ـ الدعامة التي تصنع من إنسان عالمنا إنساناً متحوّلاً في عالَم تُحدّد مُثله ونظمه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية .
وقد جاء العصر التكنولوجي مضادّاً للحتمية التاريخية في سياق مقولة : « نهاية الايديولوجيا » ، التي نشرها « دانيال بل » عام 1959 م ، ورُوّج لها في الستّينات ، على غرار ما رُوّج لمقولة « فاكوياما » : « نهاية التأريخ » في مطلع التسعينات ، وكان الهدف من مقولة : « نهاية الايديولوجيا » و « الحتمية التكنولوجـية » هو : التمهـيد لمقولة : إنّ الليبرالية والديمقراطية قضية ، ولا مستقبل لغيرها ، وهي التي انتصرت في جميع أرجاء العالم .
وإذ تعمّقت شبكة العولمة باجتيازها مراحل عدّة ، إنّما كان ذلك عبر الحذف والنفي ، وعلى حساب الأُمم والقيم ، وانتهاك الحدود ومقدّسات الآخرين ، وتفرز القراءة الاستقرائية على أنّها ايديولوجية التسويغ بشتّى الآليات لمحاولة فرض الهيمنة والغطرسة الإنجلوسكسونية على دول العالم قاطبة .
فهي آلة حرب ، جنون ، غسل دماغ ... وتعني قبل كلّ شيء : أنّ مَن يكتب الشيكات هو الذي يصوغ القوانين ، ويملك وسائل الاتّصال ومصادر المعلومات وموظفي أدوات الاتّصال الجماعي ، من أكاديميين إلى إعلاميين إلى دعائيين وغيرهم .
وذهب آخرون إلى أنّها : عملية تاريخية تعدّ نتيجة لازمة لتفاعلات معقّدة ، سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وتكنولوجية ، وهي حقبة التحوّل الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء ، في ظلّ هيمنة دول المركز وقيادتها وسيطرتها ، بسيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ ; فهو إذاً انتصارٌ ـ إن صحّ التعبير ـ لنمط معيّن من أنماط الملكية والسيطرة التامّة . إنّها رسملة العالم بما يتناسب مع المصالح الأساسية والحيوية .
ولربّما عدّها بعضهم سليلاً طبيعياً لمقولة الإسكندر المقدوني ، التي أطلقها في مأدبة « أوبيس » عام 232 ق . م ، القائلة بوحدة القلوب وبكومنويلث مشـترك بين الفرس والمقدونيّـين على قاعدة الأُخوّة الإنسانـية .
وبينهما بون شاسع ؛ إذ إنّ عالمية المقدوني أسقطت نظرية التفوّق الإغريقي ، ومهّدت السبيل إلى المدرسة الرواقية ، التي أسّسها « الفينيقي الصغير » : « زينون » ، ودعا فيها إلى وحدانية البشرية والشعوب ، وقيام
الدولة المدنية العالمية على قاعدة المساواة .
في حين تقوم عولمة عصرنا على قاعدة : « أميركا محور العالم » من خلال محاولة فرض الهيمنة بقوّة السلاح حيناً ، وبقوّة السوق حيناً آخر ، وبالغزو الثقافي ثالثاً ، و ... وأنّ النظام العالمي الجديد هو إمبراطورية عالمية أميركية ، لدرجة أن تحمل الإمبراطورية العالمية هذه دمغة الروح الأميركية .
وقد صرّحت « وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي » بشخص الرئيس الأمريكي عام 2002 م بما يلي : سوف لن نسمح بأن تصبح أيّة دولة أقوى من الدولة الأميركية ، فنحن « الإمبراطورية» المهيمنة ... سوف لن نسمح بأن يسبقنا أحد في هذا الموضوع .
وبذلك فقد اتّضح خاطفاً ما يمثّله مفهوم العولمة ـ بنظامه الشمولي المترامي ـ من مصدر خطورة وقلق يرتقي معهما ، في واحدة من زواياه ، إلى أعلى مراحل الإرهاب الفكري المبرمج .
هـذه حـالةٌ ومصـداق لأبـرز محاور الصراع الحضاري المذكـور ، المتأنّق بمفاهيم العصرنة والحداثة ، المتسلّح بالتقنية العالمية والتفوّق العلمي .
وأمّا الآخر ، القبيح الخشن المشوِّه ، فيتمثّل بالتيّار التكفيري ، المقترن بأقذر وسائل العنف والتدمير المباشر والتصفية الجسدية ، مع غاية في القسوة والخشونة ، تعكس الروح الهمجية والنفس الحيوانية البهيمية .
إنّها نزعةٌ وتيارٌ وموجةٌ جابت العالم الإسلامي ـ بل الدنيا بأسرها ـ ولا تسـتثني أحداً ، فعلماء أهل السُـنّة كفّار ، ومثقّفوهم أكفر ، ومَن كان سلفياً وخالف آخـر مثله في اجتهاد أو رأي فهو كافر ، أمّا الشيعة الإمامية فهم ليسوا كفّاراً فحسب بل أشـدّ خطراً من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم .
إنّ النهج التكفيري يعدّ من أشدّ الانتكاسات التي تمرّ بها الصحوة الإسلامية ، وهو المحنة التي تواجه العقل المبدع الخلاّق ، والمعول الذي يهدم صرح الثقافة والتطوّر نحو الأفضل ، ومصداق الاستبداد والديكتاتورية والقهر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي .
وتشير دراسات علم النفس إلى أنّ الإرهابي النوعي يعاني من شعور بالإحباط كبير ، وإحساس بالفشل وعدم احترام الذات ، فيحاول أن يَظهر ; كي يسلّط الضوء على نفسه من خلال سلوكه الانحرافي ، ثمّ إنّه مهما كان خائفاً قلقاً فهو يعجز عن التعبير عن ذلك ، ورغبة الظهور تمنعه من إبدائه أبداً
وإذا أضفنا إلى هذه المعلومة ما يُنشر ضمن أدبيات الرؤية الأميركية من أنّ الخطر الذي يهدّدها قادمٌ من صوبنا ، يتضّح ـ حينها ـ عمق المواجهة التي نخوضها ، وشراسة غريمنا الذي يحيط بنا ، ليخترقنا وينال منّا ، ويمحونا بلا أيّة رحـمة .
ونحن إذ نمتلك المحتـوى المتكامـل المستنبط من مدرسـة آل البيت عليهم السلام ، لا نفتقر إلاّ إلى الآليّـة السليمة والأُسلوب المتقن بما يتلاءم ومتطلّبات العصر .
وحينئذ لا بُدّ أن نصنع ـ بالرؤى المعمّقة ، والشفافيّة الأنيقة ، وسعة الصـدر المعهودة ، والعقلانية الهادئة ـ السـبل المناسبة لمواجهة حضارية مصـيرية ، وليس الفلاح ببعيد عن أُمّة تترشّح قيمها من عمق القرآن الكريم ومدرسة آل العصمة والطهارة عليهم السلام ، ولنا في أقطابنا العظام ، ربائب الدرجة النبوية ـ الّذين ما برحوا يتألّقون رفعةً وسمّواً بكياستهم وحكمتهم وتدبيرهم ، المشهود بها لدى المناوئ والموالي ـ أُسـوةٌ حسـنة .
المصدر: مجلة تراثنا