الاختلاط هو أحد إفرازات المجتمع الغربي ونمط من أنماطه السلوكية والاجتماعية . وقد شاع في أعقاب الثورة الصناعية التي غيّرت كثيراً من الممارسات وقلبت كثيراً من الموازين . ذلك أنّ الوضع الجديد الذي نجم عن هذه الثورة قد استدعى استغلال كل ما يمكن من الطاقات والأيدي العاملة لتسيير عجلة الصناعة ، ولتوفير العمال في حقول الخدمات العامة التي توسعت بشكل لم يسبق له مثيل .
وحيث أن الرأسماليين وأرباب الحِرَف كانوا يأبون إلا أن تدور عجلة الصناعة المتنامية ضمن طاقتها القصوى ، فقد لجأت مكاتب العمل إلى استخدام المرأة في كل حقول الانتاج الصناعي .
ونجم عن ذلك شيوع الاختلاط بين الجنسين في ميادين العمل والتعليم والاقتصاد وحتى السياسة ، مع كل ما يستتبعه من السلبيات التي انعكست آثارها الضارة على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والعائلية والخلقية والتربوية .
ومع تسلّل الاستعمار وأنماطه الفكرية إلى بلاد المسلمين وجدت هذه الظاهرة الغربية طريقها إلى الحياة الاجتماعية لأبناء هذه البلدان ، وأخذت تطبع المجتمعات المذكورة بطابع من اللامبالاة والتسيب الخلقي والسلوكي .
وقد تم فرض هذا النمط في بعض البلدان الإسلامية عنوة وقسراً لأنّ الكثرة الكاثرة من أبنائها كانوا يرفضون بشدة قبول هذه الظاهرة لما تنطوي عليه من السلبيات ، ولكونها ممارسة لا تنسجم مع روح الدين الاسلامي الحنيف بصريح التنزيل والحديث النبوي الشريف ..
وكان على أبنائنا وبناتنا أن يتقبلوا هذه الممارسة التي ابتدعتها الحضارة الغربية ، وان يستسلموا لكل ما في هذا الاطار من مفاهيم وقيم . حتى أن بعض شبابنا فقدوا - في فورة الانقلاب الحضاري الجديد وفي حّمى التحول من إطار حضاري إلى إطار حضاري آخر - القدرة على التمييز بين ما هو شر في هذه الحضارة وما هو خير فيها !
رأي انصار الاختلاط :
... وارتفعت هنا وهناك أصوات تدعو – تحت ستار الدعوة إلى التقدم – إلى الاختلاط ، و"تفلسفه" ، وتزيّن للنشء الجديد اتباعه والسير في طابوره ..
وحجة هؤلاء أن الاختلاط بين الجنسين يذهب بحدة الجنس ويقضي على ثورة الغريزة.. فحينما يألف المرء هذه العادة في المنتديات والشوارع والأماكن العامة ، يصبح لديه الجنس الآخر شيئاً مألوفاً لا يثير في نفسه ما يثيره حين يكون معزولاً عنه وهم ينفون أن يكون الشاب الذي يرافق فتاةً جميلة في الجامعة أو في العمل أو في الحياة العامة مُسْتثارَ المشاعر ، مُسْتَوفَرَ الغريزة ، وحسب رأي هؤلاء فإن الرجل لا يمكن أن يتصرف على هذه الشاكلة إلا إذا كان يعيش في محيط يفرض عليه العزلة عن المرأة ، والأمر مختلف تماماً عندما يحشر الرجال مع النساء ضمن جو من الاختلاط المستمر ..
ولكن نظرة واحدة موضوعية إلى واقع الحال في البلدان الغربية التي حملت لواء الاختلاط و"المساواة" بين المرأة والرجل تثبت عكس ما يذهب إليه هؤلاء .
تفيد الاحصائيات ان سدس الفتيات البريطانيات اللائي يُعقد عليهن للزواج هنّ من الحوامل نتيجة لعلاقات آثمة تسبق الزواج . كما تدلّ على ان طفلاً واحداً - من كل عشرين - يولد في البلد المذكور عن طريق علاقات غير شرعية . وفي أمريكا يولد سنوياً حوالي 400 ألف طفل غير شرعي .
"وقد بلغ من شيوع الفحشاء في فرنسا قبل الحرب العالمية الأولى أن النساء اللواتي كن يحترفن البغاء كن يبلغن نصف مليون ، حسب تقرير بيولر" .
وتدل الاحصاءات في فرنسا على أن أكثر من ربع المواليد هم أبناء سِفاح .
وتقع في فرنسا اليوم حوالي ربع مليون حالة طلاق سنوياً ، ويوجد فيها مليونا فتاة – أم " fille-mère " .
وتسجل الشرطة الفرنسية كل عام 22 ألف جريمة اغتصاب . والله وحده يعلم عدد الحوادث الأخرى التي تمتنع ضحاياها عن إبلاغ السلطات القضائية بها . كل ذلك يعود إلى تفكك الأسرة الناجم عن استفحال ظاهرة الاختلاط .
مساوئ الاختلاط :
ثم ان الاندفاع الجنسي الحادّ الذي يعاني منه الرجال والنساء عامة في المجتمعات المختلطة يفند هذا الرأي .. ونتائج الاختلاط بين الجنسين في الحرم الجامعي وفي محيط العمل تكذّب هذه الاطروحة .
ففي جو الدراسة والتحصيل العلمي نجد أن ثمة فوارق واضحة بين البنين والبنات على مستوى الذكاء والصحة والقدرة البدنية مما يجعل المنافسة أمراً غير وارد إطلاقاً . فللتعليم المختلط آثاره السيئة – نفسياً وعاطفياً وخُلُقياً – في فترة الطفولة والمراهقة . وكثيراً ما يؤدي الجمع بين المراهقين والمراهقات في المدرسة إلى إثارة انفعالات جنسية قد تسيئ إلى الحب والزواج في حياة الراشد .
ومن الصعوبة بمكانه وضع برنامج موحد في أي معهد من المعاهد العلمية يستجيب لحاجات البنين والبنات في آن معاً ، وذلك لأن طبيعة التوجيه المهني والاجتماعي تختلف من جنس إلى آخر .
والمشاكل التي تنشأ عن التعليم المختلط لا تؤدي إلى تأخر الصحة العقلية فقط بين التلاميذ، وإنما تؤدي أيضاً إلى كثير من المشاكل والصعوبات .
لقد أدت المدارس المختلطة في أمريكا إلى نتائج سيئة . فقد انهمك الفتيان والفتيات في المغازلة والملاحقة وممارسة العلاقات الجنسية عوض الدروس وأدى ذلك إلى انصراف الطلاب والطالبات عن المناهج الدراسية بشكل عام . ولذلك فقد صمم علماء التربية على فصل مدارس البنين عن البنات في المرحلتين الابتدائية والثانوية .
هذا على الصعيد الدراسي . أما على صعيد العمل والحياة العامة فيمكن القول بأن حرية الاختلاط بين الرجل والمرأة دون قيد أو شرط ، وارتفاع الحاجز بينهما يزيد من احتمال الإصابة ببعض الامراض الجنسية الخطرة ، ويحوّل طلب الجنس إلى عطش روحي وحاجة غير قابلة للإشباع فالغريزة الجنسية قوية وعميقة ، وكلما استجاب لها الإنسان ازدادت سعاراً وهيجاناً . وقصص التاريخ – الواقعي والروائي – تحدثنا عن رجال مثل دون جوان وكازانوفا لم يكن لهم من همّ سوى اقتناص اللذة المحرمة وجمع "الحريم" وإيقاع الحسان في شراكهم .
رأي الفقهاء :
وللفقهاء المسلمين رأيهم في الاختلاط فهم في الواقع لا يحرّمون خروج المرأة من دارها. بل يجيزون لها البيع والشراء والتعامل التجاري ، كما يجيزون لها المشاركة في بعض الانشطة العامة كالذهاب إلى المسجد وما شابه ذلك .
ويرى الفقهاء أيضاً جواز تعليم المرأة . كل هذا جائز ولكن شريطة خروج المرأة من بيتها خروج عفيفة محتشمة لا تثير الرجال ، وعلى أن يكون خروجها هذا بإذن زوجها ورضاه إذا كانت متزوجة.
والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يضع منهجاً واضحاً بيّناً للاختلاط وللتعامل بين الجنسين :
{ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنَّ ويحفظن فروجهنَّ ولا يبدين زينتهنَّ إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهنَّ على جيوبهنَّ ولا يبدين زينتهنَّ إلاّ لبعولتهن ... } .
وتتضمن الآيتان أحكاماً ترتبط بموضوع علاقة المرأة بالرجل ، وهي تلزم كل مسلم – من ذكر أو أنثى – بألاّ يحدّ النظر نحو الآخر ، وأن لا يكون النظر مصحوباً بريبة أو تلذذ ، ويلزمه بالعفة وبستر عورته أمام الآخرين . ويلزم النّسوة بالحجاب وبعدم إبراز مفاتنهنّ للآخرين وبعدم إثارة الرجال جنسياً . ويُستثنى من زينة المرأة الجزء الظاهر منها (وهو الوجه واليدان) ، كما يُستثنى من هذه الأحكام بعلها ثم محارمها (في حدود أضيق) . ويرى بعض المفسرين أن المقصود بحفظ الفروج الواردة في الآية المذكروة هو حفظها من الزنا . كما يمكن أن يحمل على مطلق الطهارة والعفاف .
المرأة والأنشطة الاجتماعية :
لقد أولى الإسلام أهمية فائقة للخلق القويم وللتمسك بأهداب العفة والفضيلة . وركز على ضرورة شرعية العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة . وبالمقابل ، نجد أن الشريعة السمحاء قد اتخذت حيال مسألة الاختلاط موقفاً وسطاً لا إفراط فيه ولا تفريط : لم يمنع الاسلام النساء من المشاركة في الأنشطة الاجتماعية ولكن ضمن حدود المحافظة على السلوك الاخلاقي القويم . وقد أوجب مشاركتهن في بعض الموارد كالحج ، حيث تتساوى المرأة والرجل في تعلّق الوجوب بهما . ولا يحق للرجل منعها من اداء هذه الفريضة .
ولم يوجب الإسلام الجهاد على المرأة إلا إذا كانت بلاد المسلمين ضحية لهجوم يشنه عليها الاعداء .
وورد أن رسول الله (ص) خرج بالنساء في الحرب حتى يداوين الجرحى . وليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا جماعة . ولا تجب على النساء المشاركة في صلاة العيدين ، ولكنهن غير ممنوعات عن المشاركة في مثل هذه المناسبات ضمن حدود الشرع.
ولقد كان رسول الله (ص) يصطحب احدى نسائه في سفره ، ويختارها من بينهن بالقرعة. كما عمل بهذا المنهج بعض الصحابة .
ولا يجوز للمرأة أن تصافح رجلاً أجنبياً إلا من وراء ثيابها ، وبشرط عدم التلذذ والريبة . وقد أخذ النبي (ص) من النساء البيعة دون أن يصافحهن . إذ أمر باناء فيه ماء ، ووضع يده فيه ، ثم أمر بوضع أيديهن فيه ، واعتبر ذلك مبايعة .
ولم تمنع النساء من المشاركة في تشييع الجنائز ، وإن كان رسول الله (ص) قد حث على عدم مشاركتهن في ذلك .
ومع أن الإسلام أجاز للنساء ارتياد المساجد إلا أنه يحرص على أن لا يكون ذلك سبباً لاختلاطهن بالرجال .
ويروى أن الرسول (ص) قد أمر بتخصيص باب معين من المسجد للنساء وآخر للرجال ، حيث قال وهو يشير إلى احد الأبواب : " لو تركنا هذا الباب للنساء " . كما أمر بخروج النساء بعد صلاة العشاء من المسجد قبل الرجال وذلك تفادياً للاختلاط ... بإعتباره مكروهاً في حد ذاته .
ولا يفوتنا في هذا الصدد إيراد وصية الإمام علي (ع) لابنه الحسن (ع) ، والتي جاء فيها: "واكفف عليهن من ابصارهنّ بحجابك إياهنّ ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهنّ ، وليس خروجهن بأشدّ من إدخالك عليهنّ من لا يوثقُ به عليهنّ ، وان استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل" .
وبإختصار فإن الإسلام يريد – ما أمكن – الحيلولة دون اختلاط الجنسين . لأن ذلك يؤدي إلى منزلقات خطرة .
وأخيراً ، يتضح أن الإسلام لا يدعو مطلقاً إلى حبس المرأة بين أربعة جدران . إنه يعارض الاختلاط ولا يعارض مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية مع ضرورة الالتزام بالستر .
المصدر: شبكة الإمامين الحسنين(عليهما السلام)