السيّد عبّاس نورالدين
تعود علاقتي بكتاب الأربعون حديثًا لمؤلفه الإمام الخميني إلى أيّام الثمانينات حين كنا ننتظر بفارغ الصبر كلّ شهر ترجمة شرح لحديث في إحدى المجلّات الإسلاميّة. ولم تطل فرحتنا كثيرًا، فقد أعلنت المجلّة بعد ترجمة المجموعة الأولى من الأحاديث عن توقّف التّرجمة بانتظار الحصول على المادّة المتبقّية. حينها بدأنا نتصوّر كم كانت مظلوميّة الإمام الخميني (قدّس سرّه)، حيث لم يكن قادرًا على نشر ما يكتبه، ولهذا بقي تراثه العرفانيّ والسّلوكيّ مجهولًا حتى عند أقرب النّاس إليه.
حين عزمت على السّفر إلى مدينة قم المقدّسة، كان أحد أهم أهدافي أن أتعلّم اللغة الفارسيّة لأصل إلى هذه الكنوز المجهولة. وبالفعل لم تمضِ مدّةً طويلة حتّى نُشر الكتاب باللغة الفارسيّة، فصار الكتاب وردي وذكري في كلّ ليلةٍ قبل أن أخلد إلى النّوم.
لقد استطاع هذا الكتاب، الذي هو في الظّاهر شرحٌ لأربعين حديثًا منقولًا عن أهل بيت العصمة والطهارة، أن يكمل ما بدأه الإمام في آداب الصّلاة وفي العديد من كلماته وخطبه ودروسه التي كنّا نتلهّف لمطالعتها والاستماع إليها.
ففي آداب الصلاة يؤسّس الإمام لرؤية عميقة حول السّير إلى الله تعالى وما يرتبط بها من مبادئ تميّزها عن غيرها من المدارس.
وفي كتاب الأربعون حديثًا تتجلّى مجموعة مهمّة من التفاصيل التي يحتاج إليها السّالك في مرحلة تهذيب النّفس بالتخلية والتحلية، حيث يعرّفنا الإمام على أهم الأمراض والرّذائل الأخلاقيّة ضمن أسلوبه العلاجيّ المعروف، الذي يجمع بين المعرفة العميقة والموعظة البليغة. ثمّ يكمل تربيته الرحيمة بالحديث عن أهم الفضائل التي يشعر القارئ معها بسهولة التحصيل وقرب المنال.
وقد جمع هذا الكتاب ما يمكن أن يشكّل القواعد الكبرى للحياة المعنويّة والأخلاقيّة، وتضمّن مجموعة مهمّة من المعارف المرتبطة بالنفس. كل ذلك، بالطّبع، في إطار معرفة الله تعالى وظهور آثاره وتجلّيات أفعاله وتدبيره.
فالإمام الخميني (قدّس سرّه) صاحب مدرسة متميّزة في معالجة النّفس وتكميلها من خلال معرفة الله تعالى. ولهذا يعبّر عن السّالك إلى الله بقدم المعرفة. فالإمام يؤمن بأنّ معرفة الله تجعل القلب متنوّرًا طاهرًا من كلّ أدناس عالم الدّنيا وأرجاسها التي تظهر بصورة الأباطيل والأوهام والعقائد الفاسدة والملكات الخبيثة والأفعال السيّئة، لأنّ أصل كل رجس من ذاك الدّاء الأكبر وهو الكفر بالله والإعراض عنه.
يؤمن الإمام بأنّ كل ما في قلب الإنسان من عقائد سوف يرشح ويتجلّى في صفاته وملكاته وأحوال نفسه، وأنّ هذه الصفات أو الأخلاق ليست سوى ظهور ما في القلب. وليست الأفعال سوى تعبير عن هذه الصّفات والملكات. وعلى هذا الأساس، فكلّ تحوّل ينبغي أن يبدأ من القلب، وما لم يحصل التبدّل القلبيّ لا يمكن أن تنجح عمليّة التّهذيب والتّكامل إلّا في مقطعٍ قصير. أمّا القلب فإنّ عالمه هو عالم الإله، لأنه عرش الرحمن.
وبتعبيرٍ آخر، إنّ جميع حالات القلب وأوضاعه تحصل من جرّاء تفاعله مع ربّ العالمين. فإن كان هذا التفاعل بصورة الإنكار والمعاندة والغفلة فسوف تتشكّل في النفس ملكات قبيحة، كالكبر والعجب والرّياء وأمثالها. أمّا إذا كان هذا التّفاعل إيجابيًّا، كالإيمان والإقبال والتسليم والرضا، فسوف تظهر في النفس تلك الملكات والأخلاق الفاضلة.
ومن خلال الحديث عن حضور الله تعالى في كلّ عالم الوجود والحياة، يقدّم لنا الإمام طريق السّير المعنويّ الذي نعالج فيه مشاكلنا النفسيّة وأمراضنا القلبيّة، ونطوي رحلة التّكامل إلى أعلى آفاق الوجود ومراتب القرب.
ونظرًا لأهمّيّة معرفة الله تعالى ودورها المحوريّ في الحياة، يتعرّض الإمام في القسم الأخير من الكتاب إلى مجموعة من الأحاديث التي يمكن وضعها في محور الاعتقاديات وفق منهجه العرفانيّ العذب؛ حيث تحدّث عمّا يمكن أن يبلغه السّالك في معرفة الله وصفاته وأسمائه، وكيف ينبغي أن يفهم قضية التّدبير الإلهيّ من دون الوقوع في فخّي الجبر والتفويض، وغيرها من القضايا الإلهيّة التي يمكن أن تشكّل دورة مختصرة في معرفة الله تعالى.
لا يمكن وصف الإمام الخمينيّ إلّا بأنّه جامعٌ لمراتب الكمال في العمق والسلاسة والشمولية والتبسيط والروحانية. لهذا، حين كنّا نبحث عن المصادر الأساسيّة التي تشكّل مرتكزات المعرفة الأخلاقيّة والسّلوكيّة، وجدنا الأربعون حديثًا على رأس اللائحة، التي ننصح بمطالعتها كل من يريد أن يبني رؤية عميقة وتطبيقيّة في هذا المجال.
لقد بقي هذا الكتاب لأكثر من ثلاثة عقود مرجعًا رئيسيًّا لتدريس المعنويّات في المعاهد والمراكز المعنيّة بالعلوم الإسلاميّة. ولا يبدو في الأفق القريب ما يمكن أن يجعله غير ذلك. وهذا لا يعني أن لا نقوم بتأليف الكتب وإعداد الدّراسات والمتون الدراسيّة منه؛ فهو مرجع للمطالعة والتدريس والتأليف أيضًا.
المصدر: مركز باء للدراسات