آية الله جوادي الأملي
* الحكومات الجاهلية واتباع الهوى:
كما مر في الأبحاث السابقة، فإن أصل الحكم هو للباري عز وجل، والأصل الأولي المتعلق بالأفراد هو أنه لا حق لأحد بالولاية والقيادة على أحد. والقرآن الكريم في آية {إن الحكم إلّا لله} (الأنعام- 57) يشير إلى انحصار الولاية، في جميع الشؤون التشريعية والتكوينية، بالله تبارك وتعالى. ولأن الحكم القطعي يعود للعقل في إثبات أن القانون الإلهي هو فقط الذي ينبغي أن يدير العباد، لذلك نعتبر أن أساس الحكومة التي تقام في حدود المعايير والضوابط الإلهية هي الحكومة التي بنيت على العقل والإدراك، و ما لا يقام على أساس المعيار الإلهي فهو حكم الجاهلية: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (المائدة- 50). وعلى هذا فإن كل حكومة لا تقوم على أساس الوحي هي حكومة جاهلية، ولا فرق هنا في ما بين جاهلية قبل الإسلام وما بعده.
في السورة المباركة «ص»، وفي خطاب داوود (ع) نجد أن التمايز بين الحكومة الإلهية والحكومات الأخرى هو- على أساس حركة العقل العملي- الحكم في محور الحق، واتباع الهوى في محور الباطل:
{يا داوود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله} (ص- 26). ومفاد هذه الآية أن الحكومة إمّا أن تكون تابعة للحق أو للهوى.
* برامج الحكومات الجاهلية:
قد بيّنا سابقاً أن برامج حكومة المؤمنين التي تتصل بحكومة الحق هي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي مقابل هذا البرنامج للحكومة الإسلامية، يذكر القرآن الكريم برامج الحكومات المبنية على الهوى بقوله:
{قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} (النحل- 34).
هذا البرنامج وإن نقل عن لسان ملكة سبأ، لكن في نهاية الآية وبعبارة «وكذلك يفعلون» ظهر أن تلك هي السيرة الدائمة للطواغيت. لأن العبارة الأخيرة إمّا أن تكون تصديقاً إلهياً أو تتمة لكلام ملكة سبأ. وفي الصورة الأولى تكون تصريحاً بالسيرة المذكورة، وفي الصورة الثانية، يظهر من خلال سكوت القرآن الكريم والاكتفاء بنقلِها تقريرُها وإمضاؤها. فالقرآن الكريم لا ينقل باطلًا بدون أن يشير إلى بطلانه، لهذا فلو كان كلام ملكة سبأ غير صحيح لقام القرآن بإبطاله حتماً.
* خصائص الحاكم الطاغوتي:
قد تبيّن سابقاً تحت عنوان «خصائص الحاكم الإسلامي» أن الوعد بالحكومة الإلهية هو لأولئك الذين يعملون الصالحات. وفي الآية التالية يُذكر الصالحون بعنوان أنهم الوارثون للأرض: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء- 105). فالعباد الصالحون هم أولئك الذين إذا وصلوا إلى الحكم- كداوود (ع)- فإنهم يحكمون على أساس الحق، ويبتعدون عن اتباع الهوى، كما خاطب الله تعالى رسوله الأكرم (ص):
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (النساء- 105).
وكما أن محور الحكومة الإلهية هو الحق، فكذلك تكون الهيئة الحاكمة والناس الذين ينفذون الأوامر الإلهية. أما في الحكومات الجاهلية، فإن الحكام مفسدون، لا يرضون بإجراء القوانين الإلهية، فيتخبطون في النهاية بالضلال والضياع لأنه: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس- 32).
إن الحاكم الجاهلي ومن يطيعه من الناس إضافة إلى القوانين التي تقام في مثل هذه الحكومة لن تكون على أساس محور الحق، بل تدور مدار «الهوى». ففي الحكومة الجاهلية لا يكون الحاكم فقط عبداً للهوى وإنما جميع الناس، من الذين يرضون بالقوانين الباطلة أو الذين يجرونها.
في سورة آل عمران يُذكر الحكام الإلهيون بأنهم الذين يدعون إلى عبودية الله ويمنعون عن عبودية غيره سبحانه: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} (آل عمران- 79).
فلا يوجد أي نبي قد دعا الناس إلى نفسه، بل إن جميع الأنبياء قد دعوا الناس إلى الحق وعبوديته، والعبودية شاملة للطاعة والرضوخ للقوانين الإلهية أيضاً. الطواغيت عندما منعوا الناس من عبودية الحق وادّعوا أنهم معبودو الناس بقولهم: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص- 38) أو {فقال أنا ربكم الأعلى} (النازعات- 24) أو {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} (المؤمنون- 47) لم يكن بمعنى أنهم الذين خلقوا السماء والأرض وأن الناس مشغولون بالسجود لهم، لأن فرعون وأمثاله كانوا عبدة للأصنام.والشاهد على أن فرعون كان عابداً للأصنام قول قومه كما في القرآن الكريم:
{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} (الأعراف- 127).
إذن، قصد فرعون والفراعنة من مثل هذه الأقوال دعوة الناس إلى تنفيذ أوامرهم والاعتراف بأنهم أصحاب وواضعو القوانين. وبينما نجد الحكام الإلهيون يدعون الناس إلى عبادة الحق ويقولون:
{أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف- 108).
فإن الطواغيت، كفرعون، يدعون الناس إلى أنفسهم. الأنبياء لم يدعوا الناس يوماً إلى أنفسهم، وإنما أرادوا من الناس دوماً أن يكونوا ربانيين في ظل الارتباط الشديد بربهم عن طريق التعليم ودراسة الكتاب:
{ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحُكم والنُّبوة ثم يقول للنّاس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.
ويذكر القرآن الكريم عند الحديث عن أبناء إبراهيم (ع) أنه قد أعطاهم ملكاً عظيماً {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} (النساء- 54) ولكن في نفس الوقت وفي سورة المائدة في الآيات المتعلقة بحكومتهم- سواء بمعنى القضاء أو بمعنى الإشراف- نجد أن محور حكومتهم وقدرتهم هو الكتاب الإلهي:
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربّانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلًا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. وقفّينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة وهدىَّ وموعظة للمتّقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة- 44- 47).
ثم يأتي الخطاب مباشرة إلى الرسول الأكرم (ص):
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (المائدة- 48- 50).
والمفصل القاطع في هذه الآيات يدل على أن التجاوز عن حكم الله يعدّ جاهليةً، وكفراً وفسقاً، واتّباعاً للهوى.
وبسبب ما للأحكام الإلهية من دور مهم في قوام الحكومة الإلهية، فإن الحكام والولاة الإلهيين سعوا دوماً لتعريف أنفسهم بعنوان الأمناء الإلهيين. وفي مقام الدفاع عن حاكميّتهم يظهر الطلب في رد الأمانات الإلهية إلى أهلها. في سورة «النساء» المباركة جاء في معرض الحديث عن شروط الحكومة الإسلامية:
{إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً} (النساء- 58) و «الأمانة» الواردة في هذه الآية، شاملة للمصاديق المالية وكذلك للمصاديق الحُكمية. ولهذا جاء في الروايات أن الإمامة والحكومة أمانة إلهية بيد الناس، وهم مكلفون بأن يودعوا هذه الأمانة عند أهلها. وعلى أساس هذه الرؤية خاطب موسى (ع) فرعون:
{أن أدّوا إليَّ عباد الله إني لكم رسول أمين} (الدخان- 18).
نعم، فالأنبياء هم الأمناء الإلهيون على العباد، وهم لا يخونون في الوحي، ولا في الحكم. فموسى (ع) يقول: «عباد الله»، ويقول فرعون مجيباً: كيف نعطيهم. (وقومهما لنا عابدون) (المؤمنون- 47).
يتبع...
المصدر:مجلة بقية الله