كيف تجعل إيمانك حيا و قويا؟

الأحد 18 مارس 2018 - 08:21 بتوقيت غرينتش
كيف تجعل إيمانك حيا و قويا؟

القادة الواعون يعرفون القوّة الحقيقيّة للدّين التي تتمثّل في معارفه وفي تفوّقه الحضاريّ وفيما يبثّه في نفوس أتباعه من شعور بالعلوّ والعزّة...

السيّد عبّاس نورالدين

الإيمان تجربة رائعة يختبرها الإنسان في حياته. لكنّ العديد من تجارب الإيمان لا تتعدّى القلب، فتبقى تجربة شبه واعية أو لاواعية. وذلك حين لا يكتشف العقل أسبابها ومناشئها.
الكثير من النّاس يعيشون حالة الإيمان في بعض مواقف حياتهم، خصوصًا تلك المواقف التي تتقطّع بهم الأسباب، ولا يبقى لهم من ملجأ سوى الله تعالى. ففي مثل هذه اللحظات قد يمتلئ القلب بشعور الحضور الإلهيّ ووحدانيّة تأثير الله؛ إلّا أنّ هذه الحالة سرعان ما تزول ليرجع هؤلاء إلى تعدّدية الأسباب والاعتقاد بتأثير الأمور المادّيّة والعوامل البشرية:

*{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(1).

*{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(2).

يشير عدد مهم من القادة المسلمين إلى أهمّيّة الإيمان وكونه عنصرًا محوريًّا في المواجهة والصّمود؛ لكن غالبًا ما يعجز هؤلاء عن طرح برنامجٍ واقعيّ يساهم في تقوية الإيمان وتنميته في أوقات الهدنة والسّلم. وفي هذا مخاطرة كبيرة وتعويل على أمر غير متين. لأنّ التجارب العديدة عبر التاريخ تثبت أنّ أكثر ما يظهر حين المواجهة قد تمّت زراعته قبلها؛ وقلةٌ هم الذين يتمكّنون من استثمار الإيمان المستجد في اللحظات الحرجة.
إنّ من أهم عناصر تقوية الإيمان أن تتم زراعته بعيدًا عن سببيّة العوامل المادّيّة وصيانته من شرك الاعتقاد بالعوامل المختلفة. وبعبارةٍ أخرى، لا شيء يجعل الإيمان حيًّا وواعيًا وقويًّا إلّا اتّصاله بمصدره الأصليّ بصورةٍ واعية، وسقايته من منبع التّوحيد الخالص. فالتعويل على السّلاح والإمكانات لتحقيق الانتصارات لا ينتج سوى الإخفاق في الحروب والفشل في المواقف.
ولأجل ذلك، لا بدّ من الرّجوع إلى مصدر الإيمان والنّهل منه، فيما لو أردنا لهذا المجتمع أو الجماعة أن تخوض المواجهة بقوّة الإيمان الحقيقيّة.
وإذا لم نكن نعلم أنّ لله تعالى برنامجه ومنهجه في زراعة الإيمان وحراثته في الحياة الإنسانيّة، فنحن بعيدون كلّ البعد عن أهم حقائق الوجود! فالله تعالى لم يجعل تلك التّجارب الاستثنائيّة (كتجربة السّفينة الغارقة) إلّا للغافلين، والذين قلّما يستفيدون منها فيما بعد المحنة؛ وإنّما يفعل ذلك ليقيم الحجّة عليهم في أنّه تعالى عرّفهم نفسه، ولم يكونوا يجهلوه. أمّا فيما يتعلّق بالحالات الطّبيعيّة العاديّة في سنّة التربية الإلهيّة ومنهاجها، فإنّ لله عزّ وجل في كلّ يوم حضورًا عظيمًا في حياتنا؛ وإنّما نغفل عن هذا الحضور (المغذّي الأوحد للإيمان) بسبب انشغالنا واشتغالنا بالأسباب التي نراها وسيلةً للوصول إلى الفوز والفلاح والنّصر!
فعناصر تقوية الإيمان موجودة في حياتنا اليوميّة دائمًا؛ وما علينا سوى الرّجوع إليها للاستفاضة منها، سواء على مستوانا كأفراد أو كجماعات (حيث تعظم مسؤوليّة القادة والمسؤولين هنا).
وهذه العناصر هي ما يُدعى "آيات الله"، التي هي مظاهر حضور الله. ومن أكبر آيات الله: دينه الذي ارتضى؛ ومن أعظم أركان دينه تلك المعارف الكبرى الشاملة العميقة التي يفتح الدين أبواب الوصول إليها بأيسر السّبل.
فما من رسالة في الدّين هي أعظم من المعرفة والعلم. وإنّما كان برنامجه العمليّ والعباديّ لأجل إيصال النّاس إلى المعرفة: ويعلّمهم الكتاب والحكمة.
لهذا، فإنّ كل من انتقل بإيمانه من مرحلة اللاوعي إلى الوعي، يدرك جيّدًا حضور هذه الآيات الدّينيّة المعرفية في حياته. ولأجل ذلك، يسعى للاتّصال بها وإيصالها لكلّ تائقٍ إلى الإيمان.
فلا شيء أقوى من معارف الدين في تقوية الإيمان الذي يُعدّ ـ باعتراف الجميع ـ العاملَ الوحيد للنّصر والثبات.وهذا ما نستلهمه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}،(3)حيث أظهرت هذه الآية الشّريفة أنّ عنصر التّفوّق نابعٌ من الفقاهة والمعرفة والوعي والفكر. وإنّما كان الصّبر والتّحمّل مسؤولًا عن جزءٍ بسيطٍ من هذا التفوّق، لأنّ الصبر بقي في الحالتين بعد التّخفيف عن المسلمين: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(4).

القادة الواعون يعرفون القوّة الحقيقيّة للدّين التي تتمثّل في معارفه وفي تفوّقه الحضاريّ وفيما يبثّه في نفوس أتباعه من شعور بالعلوّ والعزّة {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }،(5) ولا يمكن لمن أدرك هذه المشاعر أن يقبل بالاستسلام لمن هو دونه في القيم والمعرفة والحضارة.
الاستسلام والانهزام الداخليّ يبدأ من شعور المستسلم بالصَّغار والدونيّة تجاه عدوّه مهما كان عدوّه ضعيفًا مادّيًّا، والصّمود ومواجهة العدوّ تبدأ من الشّعور بالتفوّق الحضاريّ (في المعرفة والأطروحة والنّظام الحياتيّ والرّؤية الكونيّة) مهما كان العدوّ مدجّجًا.
إنّ إهمال أي مسؤول لدور معارف الدّين في حياة الأتباع، يدلّ على أنّه لم يدرك عظمة الدّين في نفسه، أو أنّه مبتلًى بالغفلة عنها في لجّة التحدّيات اليوميّة التي يعيشها وفي كثرة اهتمامه بالمشركين وانصرافه إليهم. عفى الله عنّا ورحمنا..

الهوامش:

(1)سورة آل عمران، الآية ١٣٩.

(2) سورة يونس، الآيات ٢٢-٢٣.

(3) سورة العنكبوت، الآية ٦٥.

(4)سورة الأنفال، الآية ٦٥.

(5) سورة الأنفال، الآية ٦٦.