جميل ظاهري
لو تمسك المسلمون بسيرة الرسول الأعظم (ص) والأئمة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام للعمل والتطبيق لبلغوا أعظم درجات التوجيه والأخلاق والعلم والمعرفة، ولسادوا الأمم ولامتدوا بالاسلام في أرجاء المعمورة، ولحققوا الانتصارات العظيمة في مختلف القطاعات. لكنهم أبوا إلا أن يعودوا الى عهد الجاهلية الأولى تمسكا بنهج أمية ليعبثوا بميراث الرسول الأكرم (ص).
فمن أنفس ما تركه الأئمة المعصومين عليهم السلام للمسلمين وصاياهم الكثيرة، الحافلة بالتوجيه والأخلاق والعلم والحكمة والمعرفة والأدب، فلم يعرف التاريخ الاسلامي مثل هذه الوصايا لمن سبقهم أو تأخر عنهم من علماء وحكماء وفلاسفة ومفكرين، وما ذلك إلاّ لحرصهم عليهم السلام على توجيه المجتمع، وإصلاح الأمة، وبث الأخلاق بين الناس، وليس هذا بكثير عليهم، فهم المكلفون بعد الرسول صلى الله وعليه وآله وسلم بنشر الاسلام المحمدي الأصيل، والمحافظة على سننه وشرائعه القيمة.
لكنهم أصروا على سفك الدماء البريئة وانتهاك المقدسات وإستباحة الأعراض وحصد الأرواح ولم يسلم من حقدهم الوهابي التكفيري السلفي الاجرامي وإجرامه لا البشر ولا حتى الحجر تماشياً مع رغبة بني صهيون إنتقاماً من بدر وخيبر والخندق وحنين والجمل والنهروان، فأفتوا بدينار ودرهم بترول المسلمين المنهوبة بقطع رؤوس المسلمين وحرق ديارهم وتدمير بلادهم وذبح أطفالهم وسبي نسائهم في العراق وسوريا واليمن والبحرين لبنان ومصر وليبيا و…، وجعلوا من دين الرحمة والمودة والمحبة، دين القتل والذبح والتفجير والدمار والسرق، وأسسوا للاسلامفوبيا إنصياعاً لبني سعود وأتباعهم من عرب الجاهلية الموروثية، سعياً منهم لطمس حقيقة الاسلام المحمدي الأصيل.. “يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* سورة الصف – الآية 8و9 .
من بين الأنوار الإلهية الزاهرة التي جاءت لاصلاح البشرية وهدايتها هو الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام أجمعين وهو الامام الخامس من أئمة أهل ابيت (ع) .
ولد عليه السلام يوم الجمعة أو الثلاثاء من غرة رجب (الأول من رجب)، وقيل الثالث من صفر سنة سبع وخمسين من الهجرة، وكان عليه السلام يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله، لذا لقب بالشبيه. حيث أقام مع جده الامام الحسين عليه السلام حوالى ثلاث سنوات ونيف وشهد في نهايتها فاجعة كربلاء، وعاش مع أبيه علي بن الحسين عليه السلام 34 سنة وعشرة أشهر أو 39 سنة وبعد أبيه 19 سنة وقيل 18 وهي أيام إمامته.
بدأت ولاية الامام الباقر (ع) وإمامته الفعلية في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي الذي شُغِلَ عن آل البيت (ع) طوال فترة حكمه بتصفية أسرة الحجاج بن يوسف التي كانت تمسك بزمام السلطة في عهد أخيه الوليد بن عبد الملك.
ثم جاء من بعده عمر بن عبد العزيز الذي اتّسمت مواقفه ببعض الإنصاف تجاه أهل البيت(ع) فمنع سبّ الامام علي (ع) من على المنابر وكان بنو أمية قد اتخذوها سنّة بأمر معاوية. وأعاد فدك للسيدة الزهراء (ع) إلى الإمام الباقر (ع)، ثم جاء من بعده يزيد بن عبد الملك الذي انصرف إلى حياة الترف واللهو والمجون.
وكانت علاقة الإمام (ع) بالخلفاء علاقة رصد وتوجيه وإرشاد كما كانت علاقة الإمام علي بن أبي طالب (ع) بخلفاء عصره. وكثرت الرسائل المتبادلة بين الإمام (ع) وعمر بن عبد العزيز حيث ضمّنها توجيهات سياسية وإرشادات هامة.
استشار عبد الملك بن مروان الامام الباقر (ع) في مسألة نقود الروم المتداولة بين المسلمين والتي كانوا يضغطون من خلالها على الخلافة، بعد مشاحنة وقعت بين عبد الملك وملك الروم فهدده ملك الروم بأنه سوف يضرب على الدنانير سب رسول الله (ص) إذا هو لم يرضخ لأمره ويلبي طلباته.. وبما أن النقود التي كان المسلمون يتعاملون بها كانت رومية فقد ضاق عبد الملك بهذا الأمر ذرعاً فاضطر أن يستشير الامام في ذلك، فأشار الامام (ع) عليه بطريقة عملية يصنع بها نقوداً إسلامية مما جعل المسلمين يستقلّون بنقدهم.
استفاد الامام الباقر (ع) من هذا الانفراج السياسي استفادة كبيرة في ممارسة دوره الرسالي فاتّبع سياسة تعليمية وتربوية رائدة هادفة لمواجهة الأفكار المنحرفة التي تغلغلت مع اتّساع رقعة الفتوحات. والتصدي للأحاديث المدسوسة ومواكبة المستجدات واستنباط الحلول لها.. “وانهال عليه الناس يستفتونه عن المعضلات ويستفتونه أبواب المشكلات” .
وعمل الامام (ع) على تعزيز المدرسة العلمية والفكرية التي انطلقت في حياة والده السجاد (ع) فأصبحت تشدّ إليها الرحال من كل أقطار العالم الإسلامي حتى قال أحدهم: “لم يظهر من أحد من ولد الحسن والحسين في علم الدين واثار السنة وعلم القرون وفنون الاداب ما ظهر عن أبي جعفر الباقر (ع)."
تخرج من مدرسة الامام الباقر (ع) العظيمة كوكبة من أهل الفضل والعلم كزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم الثقفي وجابر بن يزيد الجعفي.. وبذلك شكّلت مرحلة إمامته (ع) إطاراً جديداً لإدارة الصراع مع رموز الانحراف الفكري والعقائدي التي كادت تطمس معالم الدين الاسلامي آنذاك.
الامام الباقر (ع) مجمع الفضائل، ومنتهى المكارم، سبق الدنيا بعلمه، وامتلأت الكتب بحديثه، ولا غرو في أن يكون كذلك ، فها هي كتب الفقه، والحديث، والتفسير، والأخلاق، مستفيضة بأحاديثه، مملوءة بآرائه، فقد روى عنه رجل واحد من أصحابه – محمد بن مسلم – ثلاثين ألف حديث، وجابر الجعفي سبعين ألف حديث، وليست هذه بميزة له عليه السلام على بقية الأئمة، فعقيدتنا أنهم صلوات الله عليهم نور واحد ومتساوون في العلم، وسواسية في الفضل، فهم يغترفون من منهل واحد: كتاب الله وسنة رسوله، وما أودع الله تعالى فيهم من العلم اللدني يصفتهم أئمة الحق، وساسة الخلق، وورثة الرسول الأعظم (ص).
استُشهد عليه السّلام على أثر السمّ الذي دسّه إليه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك أيّامَ حكم هشام بن عبد الملك الذي أمره بذلك. ودفن (ع) في البقيع الغرقد الى جانب أبيه وعمه وأبنه، حيث هدم الوهابيون التكفيريون قبورهم الشريفة في الثامن من شوّال سنة 1344هـ فيما هُدم من قبور بقيّة الأئمّة عليهم السّلام.
وختاما نذكر إضاءات هادية من كلمات الامام الباقر عليه السّلام:
• الكمال كلّ الكمال: التفقّه في الدِّين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة.
• ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفوَ عمّن ظلمك، وتصلَ مَن قطعك، وتحلم إذا جُهِل عليك.
المصدر: موقع الأنصار