دروس...في ولاية الفقيه‏(2)

الخميس 15 مارس 2018 - 12:30 بتوقيت غرينتش
دروس...في ولاية الفقيه‏(2)

يعد الله سبحانه في عدة موارد من القرآن فئة خاصة من الناس بالحكومة. منها الآية الكريمة:{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}...

آية الله جوادي الآملي‏

* برامج الحكومة الإسلامية

في سورة الحج المباركة يقول تعالى حول برامج الحكومة الإسلامية وذلك بعد الدعوة إلى القتال والدفاع:

{الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. (الحج- 31).

1- إقامة الصلاة:

لإقامة الصلاة آثار عظيمة جداً، وما جاء في الآية الكريمة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت- 45) هو جزء من هذه الآثار. ففي سورة المعارج وبعد الحديث عن طبيعة الإنسان المتمردة وكيف أنه «هلوع» و «جزوع» كانت الصلاة أوّل ما ذكر كمعدّل لهذه الطبيعة المذكورة ثم تبعها في الآيات التالية ذكر المسائل الاعتقادية والأخلاقية والاجتماعية.

{إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعا، إلّا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم الدين ...}

(المعارج/ 19- 26). إذن ليست الصلاة لأجل اجتناب المعصية فقط، بل حتى لا يكون الإنسان حريصاً على منافعه الذاتية، ومانعاً الخير عن الآخرين، وجزوعاً مقابل الحوادث المؤلمة. وبما أن الصلاة أبرز مصاديق ذكر الله، فقد جاء في أول الوحي لموسى (ع): {أقم الصلاة لذكري} (طه/ 14).

2- إيتاء الزكاة:

في العديد من الآيات التي نزلت في مكة ، كثر الحديث عن الزكاة في حين أن الزكاة في الفقه مصطلح يتعلق بتسعة أشياء فقط وهي غير متضمّنة للخمس لأنه أوجب في المدينة، ولذلك فإن هذه الزكاة المقصودة إمّا أن تكون تزكية نفسانية أو صدقات مستحبة وأمثالها. وبناءً عليه، فإن أهل الإيمان إذا وصلوا إلى الحكومة فإنهم لا يعتبرون الزكاة أنها واجب فقهي مصطلح عليه فقط، بل إنهم يرون أن في أموالهم حقاً مسلّماً. كما جاء في سورة المعارج، فإن أول مسألة طرحت بعد بيان الصلاة هي:{والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين ...}(المعارج/24- 26).

3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إن الفرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين التعزيرات والديّات والحدود هو أن التعزيرات والحدود تزجر المخالف وتعاقبه، ولكن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك تنبيه لأجل علاج سبب المخالفة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ من الانزجار القلبي والموعظة اللسانية ثم يستمر إلى أن يصل إلى الضرب أو إلى القتل أحياناً. ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو نوع من المنع عن ارتكاب الجرائم والجنايات فإن له آثاراً اجتماعية عظيمة الأهمية. يعلم مما ظهر حول برامج الحكومة الإسلامية أن برامجها الأصلية من جانب هي تحكيم الارتباط بين العبد والمولى، ومن جانب آخر هي تنظيم الروابط الاجتماعية وإصلاح المجتمع.

* خصائص الحكم الإسلامي‏

يعد الله سبحانه في عدة موارد من القرآن فئة خاصة من الناس بالحكومة. منها الآية الكريمة:{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}. (القصص/ 5).

وفي الآية 55 من سورة النور المباركة يقول تعالى:

{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }.

نلاحظ في تعبير (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) أنها ليست إلّا جملة واحدة، فعبارة (لا يشركون بي شيئاً) لم ترتبط بكلمة «يعبدونني» بواو العطف بل إنها جاءت متصلة بها مباشرة مبيّنة بذلك كيفية عبادة الحق تعالى. وهذا يعني أن هؤلاء الذين وصلوا إلى الحكومة طبق الوعد الإلهي لن يجعلوا لله في أية حالة شريكاً، فهم لا يلتفتون إلى أنفسهم أو حتى إلى قدرة عدوهم بل أن كل اعتمادهم يكون على الله ولا يخافون في جنب الله من أي أحد. ويعلم أيضاً من الآية السابقة أن معنى عبارة «وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً» هو إشعارهم بالأمن، لا أنهم لن يهاجموا من قبل العدو، إذ من غير الممكن أن يكون هناك مجتمع يدعو للولاية الإلهية ولا يكون فيه جهاد وقتال في سبيل الله. بل إن في‏ القرآن آيات كثيرة تخبر عن شهادة الأنبياء الإلهيين، مثل‏: {يقتلون الأنبياء بغير حق} (آل عمران- 12)، أو {يقتلون النبيين بغير الحق} (البقرة- 61)، أو {قتلهم الأنبياء بغير حق}(آل عمران- 181).

إذن فالقول بأن الحكام الإلهيين لا يخافون ليس بمعنى أنهم لا يقتلون ولا يستشهدون، بل بمعنى أنه ليس هناك طريق للرعب في نفوسهم ولا مانع عندهم من إجراء الحدود الإلهية. ولأن عبارة {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} بيّنت التوحيد العبادي بلسان نفي الشرك المحض لهذا ففي خاتمة الآية {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.

* المنصوبون بالولاية الإلهية:                                                                        

بعد التعرف على بعض خصائص الذين نالوا الوعد الإلهي، ينبغي أن ننظر إلى من يتحقق فيه هذا الوعد. في الآية الثالثة من سورة المائدة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}. في هذه الآية يحقق الله تعالى ذلك الوعد الذي جاء في سورة النور حول خلافة المؤمنين ويقول إن اليوم الذي هو يوم الغدير أكمل الدين بتعيين القيّم والوالي. كما أنه تعالى يقول في صدر الآية:

{اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون}.

هذا الدين إذا لم يكن عليه قيّم ومجري فلن يكون أكثر من سواد على بياض أو مجرد كلمات مكتوبة ولهذا فإنه يكون معرضاً لهجوم الآخرين.

والدليل على أن يأس الكفار وإكمال الدين كان في يوم الغدير ببركة نعمة الولاية والقيادة التي حددت من قبل الله هو ما جاء في صدر الآية بشأن حرمة أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأمثالها، فإن ذكر هذه الأمور لم يكن شيئاً جديداً بل هي من الأحكام التي نزلت قبل ذلك، الوقت، إذن فتعبير «اليوم» وتكراره في جملتين: {اليوم يئس الذين كفروا} و {اليوم أكملت لكم دينكم} يشير إلى النعمة الجديدة التي أعطيت للمجتمع الإسلامي. تلك النعمة التي أكملت الدين ومنعت طمع الكافرين.

هذه النعمة التي ذكرت هنا بدون إضافة وتقييد بأمر خاص بل بصورة مطلقة وبحسب تعبير سيدنا الأستاذ الطباطبائي (قده) هي «نعمة مطلقة»، والنعمة المطلقة تنصرف إلى مصداقها الكامل وهو الولاية.

وكما جاء أيضاً في ذيل سورة التكاثر الآية المباركة: {لتسألن يومئذ عن النعيم} يفسّر كشّاف الحقائق حضرة الإمام الصادق (ع) الآية بقوله: "نحن أهل البيت النعيم" (تفسير مجمع البيان، ج 10، سورة التكاثر)، فهم تلك النعمة التي سيسأل الله تعالى عنها يوم القيامة وإلّا فإنه سبحانه أجلّ من أن يسأل الإنسان عن النعم المقيّدة كالماء والخبز ... وبالطبع إذا سار الإنسان في مسير ولاية أهل البيت(عليهم السلام) واستعمل النعم المقيّدة وفق أوامرهم وتعاليمهم فإن حسابه يصبح واضحاً، أمّا إذا لم يكن في هذا المسير فإنه سوف يُسأل عن كل نعمة على حدة.

وإذا تتبّعنا الآية نجد أنه بعد عبارة {اليوم أكملت لكم دينكم} يقول تعالى {ورضيت لكم الإسلام ديناً} ويفهم من ذلك أن الدين الذي ارتضاه الله هو ذاك الذي تم بعد تحديد الولاية وهو الإسلام، ولأن الله سبحانه يقول: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران/ 19) يعلم أن الإسلام بدون ولاية أهل البيت (عليهم السلام) لن يكون مرضياً عنه من قبل الله تعالى. وأمّا ما جاء في نهاية الآية حول الأحكام المتعلقة بالميتة وأمثالها فكما تقدم لم يكن هذا أمراً جديداً بحيث يؤدي إلى خصوصية إكمال الدين وإتمام النعمة في ذلك اليوم.

ثم تشير آيات سورة المائدة في النهاية بعد النهي عن الرابطة الولائية مع اليهود والنصارى إلى الولاية الإلهية واستمراريتها في ولاية الأوصياء (عليهم السلام):

{إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (المائدة/ 55).

في الدرس الماضي، وأثناء الرجوع إلى الآية المذكورة ظهرت حقيقة هذه الآية، إذ بدليل عدم وجود حكم خاص بشأن التصدق حال الركوع كانت الآية ناظرة إلى قضية خارجية خاصة. وقد قيل أيضاً أن مجي‏ء كلمة «الولي» بصيغة المفرد في الآية يشير إلى ولاية رسول الله (ص) وولاية أهل بيت العصمة والطهارة (ع) باعتبار أنهم خلفاء الله، وليست هي الولاية الشخصية المعيّنة بل هي في الواقع نفس ولاية الله. إذن في الإسلام ليس الأشخاص هم الذين يحكمون بل الله تعالى.

ودليل هذا الأمر هو أنه إذا قام الفقيه الجامع للشرائط بمسؤولية ولاية المجتمع الإسلامي، فإنه لا يعود هناك أي امتياز بينه وبين الأمة الإسلامية، وإذا أفتى بوجوب أو حرمة شي‏ء فإن العمل طبق تلك الفتوى واجب على الجميع حتى الفقيه نفسه، وإذا أعمل ولايته في شي‏ء أو أنشأ حكماً فإن نقضه حرام سواء منه أو من الآخرين ، لأن إطلاق دليل حرمة الرد على حكم الحاكم يشمل الحاكم نفسه. إلا أن يكون هناك خطأ في المقدمات التي أدت إلى الحكم، أو أن ينتهي الظرف الذي استدعى إصدار الحكم، والفقيه وحده هو الذي يحدد ذلك.

المصدر: مجلة بقية الله