السيّد عبّاس نورالدين
كل من يمتلك الحدّ الأدنى من الوعي والاطّلاع، يدرك مدى هيمنة الغرب على المجتمعات المسلمة ومدى نفوذه فيها وإيغاله في مكوّناتها الاجتماعيّة والنفسيّة والفكريّة، ويلاحظ بوضوح عمله المعلن على إخضاعها واستعبادها.
وبمعزل عن دوافع الدّول والحكومات الغربيّة الكامنة وراء هذه النّزعة التسلّطيّة، فإنّ الثّقافة السّائدة والمهيمنة على الذهنيّة الحاكمة والنّخبة السّياسيّة هناك، تؤكّد أنّ هذا الغرب لن يتراجع عن هجماته وعدائه طالما يسوده الشّعور بالتفوّق والاستعلاء؛ فكيف إذا أضفنا إلى عناصر ثقافته عنصرًا اشتهر سابقًا في أدبيّاته بـ "مسؤوليّة الرجل الأبيض" (إستعمار الشّعوب ونقلها إلى الحضارة وغيرها من الترّهات).
لهذا، لا مجال لأي حوارٍ بنّاء نكون نحن فيه في موقعٍ محترم، إلّا حين نصل إلى مستوى الندّيّة والتفوّق على الغرب.
لقد جرّبت بعض النّخب السّياسيّة والفكريّة عندنا طريقة الحوار، لكنّها سرعان ما أدركت أنّها تدور في حلقة مفرغة رسمها الغربيّون لها، لأجل الإلهاء والتّطمين.
يصعب على الغربيّين عمومًا أن يدركوا قيمة حضارة الآخرين إلّا حين تصبح هذه الحضارة ندًّا ومنافسةً لهم.
لكنّ السّؤال الأساس هنا: ما هو الطّريق الذي ينبغي أن نسلكه للوصول إلى ما يمكن اعتباره تفوّقًا على الغرب؟ (وأشدّد هنا أنّ من كان دينه الإسلام لا يجوز له أن يقبل بأقل من التفوّق).
فأحد أخطر الطّرق (والتي أعتبرها الأغبى أيضًا) أن نسعى لمسابقة الغرب على المضامير التي رسمها بنفسه وشقّها وعبّدها منذ عشرات السّنين، ثمّ سلكها مسرعًا حتّى بلغ فيها شأوًا بعيدًا.
وليس الأمر لأنّ هناك فارقًا زمنيًّا ملحوظًا، لأنّ جدّيّتنا وبعدنا عن الإسراف والتّبذير يمكن أن يختصروا الكثير من الزّمن الذي احتاجه الغرب ليصل إلى ما وصل إليه (ولا ننسى أنّ الشقّ الأكبر من جهود الغربيّين تذهب سدًى وتتوجّه إلى الفساد والعبثيّة).
بل لأنّ الأمر بكل بساطة هو أنّ هذه المضامير هي جزءٌ أساسيّ من وسائل تفوّق الغرب؛ هذا إن لم نقل أنّها كلّ القضيّة وعلّة التفوّق.
والذين لم يدركوا حقيقة الغرب وماهيّته الأصلية، يصعب عليهم أن يتفطّنوا إلى هذه القضيّة. فنحن لا نقصد بالغرب مجموعة من الشّعوب البيضاء أو الزهريّة ذات الأغلبيّة الشّقراء والعيون الزرقاء! وإنّما نقصد هذه المدنيّة أو الحضارة التي تقوم على أسس ثقافيّة معيّنة ذات رؤية كونيّة مادّيّة ترتبط بكل مجالات الحياة وشؤونها.
لقد أفرزت هذه الثّقافة مجالات ومضامير محدّدة ليتسابق عليها النّاس، زادها ووقودها هو ذلك الاقتدار المادّيّ والتّنازع والتّنافس الفرديّ وفق شريعة الغاب، حيث الكبير يأكل الصغير (بالطبع لا ننسى هنا أنّ الأسد قد يحتفظ بالحمار إلى جانبه لأجل الحفاظ على مظهر الديمقراطيّة، ونحن نعلم ما هو دور الحمار في حكومة الأسد). وسوف تبقى هذه الثّقافة سمة بارزة للغرب، وإن طُبّقت في الصّين أو اليابان أو أي بلدٍ آخر.
لقد صنع الغرب مضامير خاصّة للعلم والإدارة والاقتصاد؛ وأي تسابق على هذه المضامير لن يكون ناتجه سوى المزيد من قوّة الغرب وتفوّقه. فلا ننسى أنّ الحصّة الأكبر في كلّ المسابقات والمباريات العالميّة وغيرها تعود إلى الراعي؛ ولهذا، تتنافس الدّول والشّركات على رعاية الأندية والمباريات والمونديالات.
لقد إستطاع الغرب أن يبتكر نظامًا للعيش والعمل والإنتاج والإبداع والابتكار، الذي يبدو في الظّاهر إطلاقًا للطّاقات الفردية وتفعيلًا للمبادرات الخاصّة وترسيخًا للحرّيّات الذاتيّة، لكنّه في الباطن ليس سوى آلة عظيمة يعمل فيها الجميع كعبيدٍ غافلين، ويكون ناتجها الأكبر من نصيب الذين اخترعوها ويديرونها.
يكفي أن نلقي نظرة على الاختراعات التكنولوجيّة ونظام البراءة (الملكيّة العلميّة والأدبية). يمكن لأي شخص اليوم أن يحصل على تصاميم الابتكارات والاختراعات عبر الإنترنت، وبالتالي تصنيعها وتطبيقها (سواء كان ذلك بحفظ حقوق المخترع أو لا). وإذا استثنينا بعض التقنيّات العالية (high tech)، التي يفرض الغرب عليها حظرًا منيعًا، فبإمكان أي دولة في العالم اليوم أن تستفيد من عددٍ لا يُحصى من التكنولوجيّات المتاحة.
ألا يعرف الغرب ذلك؟ وإذا كان الجواب نعم، فلماذا يسمح بهذه الحرّيّة؟
والجواب هو أنّ الغرب قد وجد أنّه قادرٌ على السّيطرة على هذا التّحرّر والتّبادل أكثر ممّا لو جعله حكرًا عليه، وأكثر ممّا لو فرض عليه حظرًا شاملًا، كما يفعل ببعض التقنيّات العالية؛ وهو يعلم أنّه سيكون دومًا المستفيد الأكبر من شعور الجميع بأنّهم ينتمون إلى قاعدة كبيرة للتّبادل والتّواصل ممّا لو كانت شركة خاصّة أو بلدًا معيّنًا.
إنّ تحقّق التفوّق على الغرب، والذي هو الطّريق الوحيد للاستقلال الحقيقيّ الشّامل، لا يمكن أن يكون بسلوك الطّرق والمضامير التي رسمها وشقّها لنا. وما لم ندرك الماهيّة الواقعيّة للغرب، فسوف يكون النّقاش في هذا المجال عقيمًا.
أولئك الذين فهموا أنّ الغرب ثقافةٌ قبل أن يكون تكنولوجيّة، وأنّه فكرٌ قبل أن يكون اقتصادًا، وأنّه رؤية كونيةٌ قبل أن يكون علومًا، يعلمون جيّدًا أنّ بداية مسيرة التفوّق على الغرب تكمن في اكتشاف الكنوز العظيمة المستودعة في ثقافتهم وفي رؤيتهم الكونيّة وفي نمط العيش الذي تنادي به هذه الثقافة. والعمل على تفعيلها وتصميم مضامير السّباقات على أساسها. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فسوف تكون يد الله معهم. وكل من كانت يد الله معه فهو غالب حتمًا.
المصدر: موقع إسلامناهيمنة الغرب