من هو ذو القرنين؟ وما هي قصّته؟

الخميس 15 مارس 2018 - 05:25 بتوقيت غرينتش
 من هو ذو القرنين؟ وما هي قصّته؟

وهذه شخصيّة جديدة تتميز بالإيمان والقوة والحركة والمسؤولية... كانت مثاراً لأكثر من سؤال لدى القوم المعاصرين للرسول، وهي شخصية ذي القرنين الذي قد يكون مذكوراً في التراث اليهودي، وقد يكون منقولاً لدى مجتمع الدعوة في ما يتناقله الناس من أحاديث الشخصيات التي تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة، والخرافة بالعلم.

 

أنبياء - الكوثر

السيد محمد حسين فضل الله

 

ذو القرنين.. سبب التّسمية

وقد لا نملك التاريخ الدقيق الذي يمكن أن يفصِّل لنا خصوصيات هذه الشخصية في موقعها من الزمان والمكان، أو في طبيعة الملامح الذاتية. وقد أفاضت الأحاديث المأثورة المروية في تحديد اسمه، وموقعه، ومدة ملكه، وفي سرّ هذه التسمية الغريبة التي تجعل له قرنين، مما لا يكون إلّا للحيوان، وهل هما من ذهب أم من فضّة؟ وغير ذلك مما لا يخضع لقاعدةٍ أو يؤدّي إلى نتيجةٍ.

 

وقد ورد في بعضها ما يمكن أن نستوحي انسجامه مع الوحي القرآني في تحديد شخصيته، وذلك في ما رواه الشيخ الصدوق في «كمال الدين» عن الأصبغ بن نباتة، قال: "قام ابن الكوّاء إلى عليّ(ع) وهو على المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن ذي القرنين، أنبياً كان أم ملكاً؟ وأخبرني عن قرنيه، أمن ذهب أم من فضّة؟ فقال له: لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضّة، ولكن كان عبداً أحبّ الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، وإنما سمي ذا القرنين، لأنه دعا قومه إلى الله عزّ وجلّ، فضربوه على قرنه فغاب عنهم حيناً، ثم عاد إليهم فضرب على قرنه الآخر".

 

وإذا صحت هذه الرواية، فإنها تدل على أنه قد عاش الدعوة إلى الله في حياته، من موقع المعاناة في خط التحدي والتحدي المضاد، ما جعله عرضةً للاضطهاد، كما هي حال الكثيرين من المصلحين المجاهدين الذين يعيشون الضعف الذاتي والمادي في مجتمعهم، فيتعرّضون للضرب والاضطهاد من طغاة زمانهم، ولكنه قد أخذ بأسباب القوة، حتى أصبح يطوف البلاد من موقع القوة الضاغطة الكبيرة.

 

ولعل القرآن لا يستهدف من الحديث عنه إلا الجانب الإيحائي الذي يوحي بالعبرة في ما يتمثل في ملامحه من قوة الإيمان، وقوة الشخصية، وحركة المسؤولية الحاسمة أمام حالات الانحراف أو الاستقامة، وتحريك القوة في معاونة الضعفاء، والابتعاد عن النوازع المادية في ما يقوم به من جهد تجاههم.

 

وربما كان هذا هو النهج في القصص القرآني، الذي لا يفيض في الحديث عن التفاصيل، فيقتصر على رسم ملامح الصورة عن الأشخاص الذين يتحدث عنهم، لأنه لا يعتبر القصة ملهاةً لإثارة الفضول وإشباعه، لتكون الأمور الجزئية التفصيلية أساساً في حركة القصة، بل يراها درساً فكرياً أو عملياً، من خلال ما توحي به الملامح البارزة التي تمثل حركة القضية المطروحة في السير العملي للشخصيات. وقد نحتاج إلى استلهام هذا النهج في كتابة التاريخ، لأن ما نستفيده للمستقبل من عبرةٍ لا يحتاج إلى سرد الكثير من تفاصيله، وبذلك نبتعد عن الاستغراق في الملامح الذاتية للشخص العظيم، نبياً كان أو إماماً أو ولياً أو زعيماً صالحاً، إلا في ما يتصل بالمعنى الرسالي أو القيادي من ذلك.

 

قصة ذي القرنين

وهذا ما نريد أن نلتقيه في حركة القصة القرآنية في قصة ذي القرنين.

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} لتكشف لهم غوامض شخصيته وخصوصية تاريخه، ليتعرفوا عليها من خلال حديثك، أو ليتعرفوا دقة معلوماتك، عندما يقارنون بينها وبين ما يملكونه من معلوماتٍ حصلوا عليها من مصادرهم الموثوقة أو غير الموثوقة، ليكون السؤال اختباراً لما تملكه من المعرفة. {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} يمنحكم الفكرة والعبرة، بعيداً من الفضول الذاتي الباحث عن التفاصيل.

 

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ} فأعطيناه من القوة والسلطة والسيطرة، {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} من الوسائل الفكرية والروحية والمادية، ومن القوى البشرية المتعاونة معه، المؤيّدة له، ومن المواقع المتقدمة في ساحات الصراع الواسعة على مستوى العالم الذي يحيط به.

 

{فَأَتْبَعَ سَبَباً} وتحرّك من أجل الأخذ بهذه الأسباب التي تمهِّد له الوصول إلى أهدافه الكبيرة، عبر المسافات البعيدة الباحثة عن مشارق الشمس ومغاربها.

 

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}، وهو الموقع الذي ينتهي إليه العمران من جهة الغرب في ما يمكن له أن يبلغه لاصطدامه بحاجزٍ مائيّ أو جبليٍّ أو ما إلى ذلك... {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، وربما كانت كنايةً عن مصبِّ أحد الأنهار، حيث تكثر الأعشاب ويتجمّع حولها طينٌ لزجٌ ـ وهو الحمأ ـ وتوجد البرك كأنها عيون الماء، فرأى الشّمس تغرب من هناك، ووجدها تغرب في عين حمئة ـ كما يقول سيد قطب ـ وربما كانت النقطة عند شاطىء المحيط الأطلسي الذي كان يسمى بحر الظلمات، ويظن أن اليابسة تنتهي عنده، فرأى الشمس تغرب فيه.

 

{وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} استطاع أن يسيطر عليهم بالقوة القاهرة التي كان يملكها، وأن يحكمها بالمنهج الذي يراه أساساً للحكم، ولكنه ليس المنهج الذي يتخذ السلطة وسيلةً للقهر أو لأخذ المحسن بذنب المسيء، أو للعمل على خنق حريتهم ومصادرة إنسانيتهم، كما يفعل الأقوياء. وهكذا واجه الخيار الذي يقف أمامه في موقع الاختيار بين العذاب الذي يسومهم به، وبين العفو والتسامح والرحمة التي يعاملهم بها. وهذا هو ما يستوحيه من التعاليم الإلهية المنزلة على الرسل الذين عاصرهم، أو تقدموا عليه، وذلك كما لو كان يستمع إلى كلام الله بشكلٍ مباشرٍ، لأن الإنسان الواعي المنفتح على الرسالة، يواجه كلام الله الذي يقرأه أو يسمعه، كما لو كان يستمع إليه من ربه.

 

{قُلْنَا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} وفي ضوء ذلك، فليس من الضروري أن يكون هذا القول من الله وحياً إلهياً، ليكون ذلك دليلاً على نبوّته، ولكن ما معنى هذا الخيار؟ هل إن القوم كانوا منحرفين متمردين يستحقون العذاب جزاءً لانحرافهم وتمرّدهم، أم ربّما كانوا يرجون العفو والمعاملة الحسنة على أساس جهلهم وتخلّفهم، مما يمكن أن يكون عذراً لهم، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل تراجعهم عن خط الانحراف عندما يعيشون روح التسامح التي تفتح قلوبهم وعقولهم على الخير القادم من الله؟! ووقف ذو القرنين بين الخيارين، ولكنه كان يريد أن يواجه المسؤولية من خلال الحكم على الواقع الإنساني الذي عاشه هؤلاء في نتائجه العملية، فلا بد من دراسة تاريخ حياتهم، ليعرف ماذا فعلوه من خيرٍ أو شرٍ، وما مارسوه من صلاح أو فساد، ليكون ذلك هو الوجه البارز لحركته في حكم المجتمع في نطاق المستقبل في ما يقوم به بشكلٍ مباشرٍ، وما يمكن أن يقوم به الآخرون من بعده.

 

ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن هذا هو الخط المتحرك في النهج الذي يجب أن يحكم سلوكهم في حياتهم العامة والخاصة، ليكون ذلك هو حركة مسؤوليتهم في ما يواجهون الله به من ذلك. وهذا ما أكدته الآية الكريمة في ما نقلته عن جواب ذي القرنين.

 

{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} في الدنيا، وفق خط الشريعة العادل التي تريد أن تؤكد النظام الكامل في المجتمع في علاقاته بين أفراده، فتدفع إلى عقاب الظالمين الذين يظلمون أنفسهم بالانحراف عن الخط المستقيم، ويظلمون غيرهم بالاعتداء على حقوقهم وحرياتهم، لأن ذلك هو العنصر الرادع الذي يمنعهم في المستقبل من الامتداد في خط الانحراف والعدوان، انطلاقاً من الحالة الإنسانية الخاضعة لمبدأ الثواب والعقاب. أما في الآخرة، فإن العذاب ينتظر الظالم لتمرده على الله في ما عصاه في أوامره ونواهيه. {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي منكراً عظيماً لا يعرف طبيعته لأنه غير مألوف لديه، في ما كان يألفه من ألوان العذاب في الدنيا.

 

{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} في ما يمثله ذلك من التكامل بين الحالة الفكرية في العقيدة، وبين الحالة العملية في الاستقامة على خط الإيمان بالعمل الصالح الذي يمثل المفردات التشريعية في دائرة رضا الله، {فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أي فله المثوبة الحسنى جزاء عمله وإيمانه، ونضعه في المركز الكبير في الحياة الاجتماعية، ليكون ذلك تشجيعاً للمحسنين على إحسانهم، وللآخرين على الأخذ بأسباب ذلك. {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} في ما يعنيه القول من التكليف بالأعمال اليسيرة التي لا تشق عليه، لأن الجهد الذي بذله في الانضباط والالتزام بالسير على الخط المستقيم، يفرض التخفيف عليه. وربما كانت كلمة اليسر كنايةً عن المعاملة الطيبة التي تجعل للمحسنين موضعاً للإكرام والاحترام.

 

*كتاب تفسير من وحي القرآن، ج 14، ص 382-387.